رسالة في شرح
المطلق والمقيد
الشيخ وليد بن راشد بن سعيدان
----------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، ثم أما بعد :- فهذه كلمات يسيرة مختصرة على قاعدة من
كبريات قواعد أصول الفقه ، لها أثرها الكبير في التفريع وخلاف أهل العلم رحمهم
الله تعالى ، إذا ضبطها الطالب فيكون قد حصل خيرا كثيرا ، وإن أتقن التفريع عليها
فسيكون متميزا في فقهه وسيره العلمي ، وهي قاعدة الإطلاق والتقييد في الأدلة ، وقد
كنت تكلمت عليها في مناسبات كثيرة ولكن
أحببت أن أفرد لها شرحا خاصا يتضمن أدلتها
وفروعها الفقهية ، وسيكون الكلام فيها على ما قدمناه لك من قاعدة العموم والخصوص ،
وأسميته ( رسالة في شرح المطلق والمقيد ) والله أسأل بمنه وكرمه أن ينفع به ويبارك
فيه ، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم وأن يغفر لأهل العلم الأحياء والأموات ، وأن
يجزيهم عنا خير الجزاء ، وإلى المقصود مباشرة حتى لا نطيل ، فأقول وبالله تعالى
التوفيق ، ومنه أستمد العون والفضل وحسن التحقيق :- نذكر لك أولا نص القاعدة حتى
تكرره وتحفظه ، فأقول :-
{ الأصل
بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل }
{ المطلق
يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم }
أقول
:- الكلام على شرحها في مسائل :-
(المسألة
الأولى) المطلق لغة : هو المنفك من كل قيد حسياً كان أو معنوياً .
واصطلاحاً : هو اللفظ المتناول لفردٍ شائعٍ في جنسه ، أي يدل على فردٍ واحدٍ ، لكن
هذا الفرد ليس بمحددٍ ولا بمعين ، فليس بمتميزٍ من جملة أفراد جنسه فهو شائع فيها
، والمراد بقولنا (شائع) أي غير متميز ، وذلك كقولي : أكرم طالباً ، فبالطبع لا
تفهم أني أمرتك بأن تكرم كل طالب ، وإنما فهمت مني الأمر بإكرام طالب واحدٍ فقط ،
لكن ماهية هذا الطالب وصفاته وقيوده غير محددة فهو طالب من جملة الطلبة ، فلفظة
(طالباً) لفظ مطلق لأنه يدل على فرد غير متميز عن جملة حقيقته وقال تعالى ] فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ[ وهذا أمر بإعتاق رقبة ، فهي رقبة واحدة ، لكنها مطلقة شائعة في جنس
الرقاب لا تتميز عنهم بشيء ، فلم يحدد لنا صفةً لهذه الرقبة تميزها عن جنس الرقاب,
وهكذا فالمطلق إذاً لا يفهم منه إلا تعيين الحقيقة لا تعيين الأفراد . وهذه
الحقيقة التي دل عليها اللفظ مركبة من جملة أفراد ، واللفظ المطلق عين الحقيقة لكن
لم يتعرض للأفراد بوصف ولا قيد فلذلك سمي مطلقاً ، لأنه ذكر الحقيقة منفكةً عن كل
قيدٍ ، فأنت عرفت بقوله تعالى ]فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ[ جنس المراد عتقه وهو الرقبة ، لكن أي رقبةٍ هي ، وبأي ديانةٍ تكون ، ومن
أي الأجناس ، عربية أم أعجمية ، بيضاء أم سوداء ، صغيرة أم كبيرة ، ذكر أم
أنثى ، كل ذلك لم يتعرض له النص بشيء وإنما ذكر لك لفظاً مطلقاً عن كل قيدٍ فهذا
هو اللفظ المطلق ، وأما المقيد : فهو اللفظ الدال على شيءٍ معين باسمٍ أو صفةٍ ، كأسماء الأعلام مثلاً
أو الإشارة أو المعرف بالألف واللام ونحوها ، كل ذلك يسمى مقيداً ، لأنه يدل على
شيءٍ زائدٍ على مجرد الحقيقة ، فهو يذكر لك الحقيقة ويقيد لك الفرد الذي
يريده منها باسمه أو صفته التي تميزه عن غيره من جملة أفراد هذه الحقيقة ، كقوله
تعالى في كفارة قتل الخطأ ] فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [ فإنها هنا لم تذكر مطلقة كما ذكرت في كفارة الظهار بل قيدت بوصف حددها وميزها عن غيرها وهو قوله ]مُؤْمِنَةٍ[ فهذا الوصف حدد
لنا المراد بالرقبة وإن كان قد بقي فيها
بعض جوانب الإطلاق ، فكلمة ]مُؤْمِنَةٍ[ لفظ قيد الرقبة
وأخرجها عن إطلاقها ، لأنها لم تعد بعد تقييدها منفكة من القيود ، فهذا بالنسبة
لتعريفهما . وخلاصته : أن اللفظ المطلق يدل على الحقيقة مجردة عن وصفٍ زائدٍ ،
والمقيد يدل على الحقيقة بزيادةٍ قيدٍ من اسم أو وصف ، والله أعلم .
(المسألة
الثانية) اعلم أن النكرة إذا وردت في سياق الإثبات فهي من الألفاظ
المطلقة كقوله تعالى : ] فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [ فهنا إثبات ، ولفظ ]رَقَبَةٍ[ نكرة فهي إذاً
لفظ مطلق ، وكقولي (أكرم ضيفاً) فهذا إثبات للإكرام وأمرٌ به ، ولفظ (ضيفاً) نكرة
فهو إذاً مطلق لأن النكرة في سياق الإثبات مطلقة ، وكقولي (أعط فقيراً صدقة) فهذا
إثبات و(فقيراً) نكرة ، وكذلك لفظ (صدقة) نكرة أيضاً فهما نكرتان في سياق إثبات فهي إذاً لفظ مطلق ،
وكقوله تعالى ] وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [ فـ ] آتُوا [ أمر و] حَقَّهُ [ نكرة ، فهو
إذاً لفظ مطلق ، وهكذا فأي نكرة تأتيك في سياق الإثبات فاعلم أنها من جملة الألفاظ
المطلقة .
(المسألة
الثالثة) اعلم – أرشدك الله لطاعته – أن الدليل المطلق يجب العمل به
على إطلاقه ولا يجوز تقييده إلا بدليل صحيح ، لا بمجرد الهوى والمذاهب وأقوال
الأئمة ، وأن الدليل يطلب ممن ادعى التقييد ، لأنه مدعٍ والبينة على المدعي ، فإذا
جاء بدليلٍ شرعي صحيح مثبتٍ لهذا القيد قبلناه ، وإلا فهو مردود عليه ، وذلك لأن
الدليل المطلق من كلام الله تعالى ورسوله r وكلاهما لا يجوز التحكم فيه بتقييدٍ أو اشتراط أو تقديم أو تأخير إلا
بدليل آخر من كلامهما ، أما التحكم والهوى والتعصب فكل ذلك لا يصلح أن يكون
مستنداً للعقلاء في تقييد المطلق من كلام الله ورسوله r فأي حكم ورد في الكتاب والسنة
مطلقاً فإنه يجرى وجوباً على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل صحيح ولأن هذه الشريعة من مقاصدها التيسير على
المكلفين ، وإن إطلاق الأحكام الشرعية عن القيود نوع من أنواع التيسير
والتخفيف ، لأن القيد فيه تكليف زائد على التكليف بالمطلق ، وزيادة التكليف قد
توجب عدم الامتثال ، فورود الأحكام مطلقة من رحمة الله تعالى بعباده ، فلا يجوز
لأحدٍ من الناس أن يقيد المطلق بقيودٍ تخرجه من حيز التيسير إلى حيز التعسير كما
يفعله بعض الفقهاء - هداهم الله تعالى - فإن بعضهم - وهم قليل – يعمدون إلى أحكامٍ
وردت في الشريعة مطلقة لا قيود فيها ثم يشترطون فيها شروطاً لا دليل عليه
فيضيقون على الناس ما وسعه الله عليهم حتى تذهب روح التشريع من هذا الحكم فيكون في
تنفيذه من الآصار والأغلال بسبب هذه القيود الشيء الكثير ، ونضرب لك أمثلة على ذلك
حتى ترى كيف أثر هذه القاعدة أعني قاعدة وجوب إجراء المطلق على إطلاقه فأقول :
من الأمثلة : المسح على الخفين فإنه رخصة بإجماع أهل السنة والجماعة ، حتى ذكره
بعض علماء الاعتقاد في كتبهم كالطحاوي وغيره في عقيدته ، وأصل تشريعه إنما هو
الرحمة وإرادة التخفيف وإن الأدلة الدالة على جواز المسح على الخفين والجوربين
بلغت مبلغ التواتر ، وبالنظر فيها لم أجد غالب ما يشترطه الفقهاء في الخفين ،
فإنهم قد اشترطوا لجواز المسح عليها شروطاً لا دليل عليها, أو لها أدلة لكنها ليست
بصريحة فضلاً عن مخالفتها للأدلة الصحيحة وأصول الشريعة ، فمن ذلك اشتراط كونه
صفيقاً لا يرى لون البشرة من تحته ، فهذا قيد يقيدون به أدلة المسح المطلقة ،
فنقول: وأين الدليل الدال على هذا القيد ؟ وعلى اعتباره فإن أتوا بدليل - وأنى لهم
به - وإلا فكلامهم مردود ، ولذلك فالراجح جواز المسح على الخف الشفاف الذي ترى من
تحته البشرة ، لأن الأدلة وردت مطلقة والأصل إجراء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا
بدليل .
ومن ذلك : اشتراطهم أن يكون الخف سليماً من الخروق والفتوق ، وهذا أيضاً
تقييد للمطلق فنقول : وأين الدليل الدال على هذا القيد ؟ وإلا فهو قيد باطل لا
ينظر إليه، وإنك إذا نظرت إلى تعليلهم في اشتراط كونه سليماً من الخروق وجدته
عليلاً وقياساً باطلاً ، فالصواب هو جواز المسح على الخف المخرق مادام اسمه باقياً
، ويمكن متابعة المشي فيه وهو اختيار أبي العباس شيخ الإسلام
ومن ذلك : اشتراطهم في جواز المسح أن يثبت الخف بنفسه ، فالذي لا يثبت إلا
بشده فإنه لا يجوز المسح عليه ، وهذا أيضاً قيد يحتاج إلى دليل ، فأين الدليل
الدال على ذلك ؟ فالصواب جواز المسح على الخف ولو لم يثبت إلا بشده لأن الأدلة في
المسح وردت مطلقة فلا تقيد إلا بدليل .
ومن ذلك : اشتراطهم لجواز المسح على الخفين في السفر ثلاثة أيامٍ ولياليهن
أن يكون سفر طاعة وهذا قيد يحتاج إلى دليل
لأن الأحاديث أثبتت جواز المسح ثلاثة أيامٍ ولياليهن للمسافر هكذا مطلقاً من غير
تقييد بسفرٍ دون سفر فأين الدليل الدال على هذا القيد ؟ فهو إذاً باطل ، فالمسافر
يمسح المدة المقررة له شرعاً من غير اشتراط أن يكون سفر طاعة وهو اختيار أبي
العباس شيخ الإسلام .
وعلى العموم فإنني سبرت الشروط التي يشترطها الفقهاء في المسح على الخفين
فلم أجد شيئاً منها صالحاً للاعتبار إلا شرطين فقط وهما : اشتراط الطهارة ،
وأن يكونا طاهرين مباحين ، وهذان القيدان لهما أدلة كثيرة يطول المقام بذكرها وبه
تعرف أهمية قاعدة إجراء المطلق على إطلاقه وعدم قبول تقييده إلا بدليل شرعي صحيح ،
وهذا هو المثال الأول .
المثال الثاني : المسح على العمامة فإن الأدلة فيها وردت مطلقة إلا أنك ترى بعض الفقهاء
قد اشترط فيها شروطاً وقيدها بقيودٍ لا دليل عليها .
فمن ذلك : اشتراط أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة فأين الدليل على ذلك ؟ فإني
بحثت لهم عن دليل فلم أجد إلا قولهم : لأنها عمائم العرب ومثل ذلك لا يكون
مقيداً لكلام الشارع ولذلك فهذه القيود باطلة والصواب أن المسح جائز على
ما يسمى عمامة بأي عرفٍ كانت وعلى أي صفة كانت .
ومن ذلك : اشتراط الطهارة قبل لبسها وهذا أيضاً لا دليل عليه وقياسها على
المغسول في الوضوء كالقدمين للبس الخفين قياس مع الفارق فالصواب أنه يجوز المسح
عليها ولو لبسها على حدثٍ وهو اختيار أبي العباس لأن الأدلة وردت مطلقة وليس
في شيءٍ منها اشتراط الطهارة .
ومن ذلك : توقيتها بيومٍ وليلة للمقيم وثلاثة أيامٍ للمسافر كالخفين وهو
تقييد لا دليل عليه ولذلك فالصواب أنه يمسح عليها مطلقاً لأن الأدلة وردت
مطلقة ولم تقيد المسح عليها بوقت والمطلق يجري على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل وهو
اختيار أبي العباس .
المثال الثالث : المسح على خمر النساء فإن الأدلة فيه وردت مطلقة فالنبي r مسح على الخفين والخمار ، والخمار اسم لما يغطى به الرأس وكانت أم سلمة
تمسح على خمارها وهذه الأدلة مطلقة فمن قيدها بشيءٍ فعليه الدليل ، وبه تعرف
خطأ من قيد جواز المسح على الخمار بكونه مداراً تحت الحنك فإن هذا القيد لا أصل له
في كلام الله ورسوله فالصواب جواز المسح على الخمار ولو لم يكن مداراً تحت الحلق
والله أعلم .
ومن الأمثلة
أيضاً : وجوب صلاة الجمعة ، فإن الأدلة دلت على وجوبها إذا تحققت
الجماعة هكذا وردت الأدلة ، فمن قيد
وجوبها بعددٍ معين فعليه الدليل ، وإني لا أعلم إلى ساعتي هذه دليلاً صحيحاً
صريحاً في الأعداد التي نص عليها الفقهاء ، فالحنابلة يشترطون الأربعين ولا دليل
معهم إلا حديث جابر (( مضت السنة أن في كل أربعين فصاعداً جمعة )) وهذا ضعيف جداً
ولا تقوم بمثله الحجة ، وبعضهم يشترط اثني عشر رجلاً ويستدل بحديث جابر عند مسلم
في قدوم القافلة من الشام قال (( فانفتل الناس إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر
رجلاً )) وهذا وإن كان صحيحاً لكنه ليس بصريح في المراد وبما أنه لا دليل يقيد
وجوبها بعددٍ معين فالأصل أنه إذا تحقق مسمى الجماعة ممن تجب عليه فإنه تجب عليهم
وأقل الجماعة اثنان واحد يخطب وواحد يستمع ، أو على الأقل يقال : أقل الجمع ثلاثة
واحد يخطب واثنان يستمعان ، وعلى كل حال فالمراد أن تعرف أن الدليل المطلق يجرى
على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل صحيح صريح .
ومن الأمثلة
أيضاً : ألفاظ النكاح والبيع ونحوها من سائر العقود وردت أدلتها
مطلقة لم تقيد بلفظٍ لا تصح إلا به ، فمن قيد صحتها بألفاظٍ وشروطٍ معينة فعليه
الدليل ولذلك فالراجح أن عقود النكاح والبيع ونحوها تصح بما تعارف عليه الناس في
مثلها من قول أو فعل وهو اختيار أبي العباس والله أعلم
والمقصود من هذه الأمثلة التي ذكرتها لك أن تعرف معرفة جيدة أن الأدلة
المطلقة تبقى هكذا على إطلاقها ومن ادعى فيها قيداً أو شرطاً زائداً على مجرد
حقيقتها فعليه الدليل فإن جاء بدليل شرعي صحيح صريح فاقبله واعتمده وإن لم يكن ثمة
دليل معه وإنما هي المذاهب وأقوال الأئمة فاطرح هذا القيد وأبق المطلق على إطلاقه
، فهذا هو الذي أردنا إثباته في هذه المسألة والله يتولانا وإياك .
(المسألة
الرابعة) : وهي بيت القصيد ولب القاعدة وهي فيما إذا كان لفظ مطلق
ولفظ آخر مقيد فما العمل في هذه الحالة ؟
والجواب عن ذلك أن في المسألة تفصيلاً يحتاج إلى فهم دقيق مع الإكثار من ضرب
الأمثلة ، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل وحسن التحقيق .
اعلم - رحمك الله تعالى - أنه إذا ورد لفظ مطلق ولفظ آخر مقيد أنك تنظر في
سبب ورودهما والحكم الذي يدلان عليه ، ذلك لأن الأدلة التي تثبت أحكاماً شرعية لها
سبب وردت من أجله وحكم تريد إثباته فأنت عليك أولاً أن تنظر في سبب كل منهما وتنظر
في حكم كلٍ منهما وحينئذٍ إذا نظرت في ذلك فلا يخلو الأمر من أربع حالات :
الحالة الأولى : أن يختلفا في السبب والحكم ، أي يكون سبب ورودهما مختلفاً عن سبب الآخر
وكذلك الحكم ، فحكم المطلق يختلف تماماً
عن حكم المقيد ففي هذه الحالة لا يبنى أحدهما على الآخر بل يعمل بالدليل المطلق في
موضعه مطلقاً ، ويعمل بالدليل المقيد في موضعه مقيداً وهذا بإجماع الأصوليين
فيما أعلم ولله الحمد والمنة, ونضرب لهما بمثالين ولن نطيل فيهما :
المثال الأول : قوله تعالى في
السرقة ] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ فاليد هنا وردت مطلقة ولم تقيد بحدٍ ، فهذا الدليل مطلق ، وسببه السرقة ،
وحكمه وجوب قطع اليد ، وقال تعالى في آية الوضوء
] وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [ فاليد هنا وردت مقيدة بالمرفق ، والسبب هو الوضوء والحكم وجوب الغسل ، فهنا ذكرت اليد في الآيتين
مطلقة في آية السرقة ومقيدة في آية الوضوء فهل نحمل المطلق على المقيد ونقول إذاً يد
السارق تقطع من المرفق كما أن اليد في الوضوء تغسل إلى المرفق ؟ فالجواب : هو أن
ننظر أولاً في سببهما وحكمهما ، فسبب الأولى السرقة وسبب الثانية الوضوء ، فهما
إذاً مختلفتان في سببهما ، وحكم الأولى وجوب قطع اليد ، وحكم الثانية وجوب غسل
اليد ، والقطع يختلف عن الغسل فهما إذاً المطلق والمقيد مختلفان في سببهما وحكمهما
فهنا لا يبنى المطلق على المقيد بل يعمل بآية السرقة في موضعها فلا تقيد
بالمرفق لكننا وجدنا لآية السرقة مقيداً صحيحاً معتبراً كما سيأتي إن شاء الله في
الحالة الرابعة .
ومن الأمثلة أيضاً : قوله تعالى في
آية التيمم ] فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [ فاليد هنا في التيمم وردت مطلقة لم تقيد بشيء لا بمرفقٍ ولا غيره ثم
وجدناها قيدت في آية الوضوء بالمرفق كما مضى ، فهل نقول كما أنها في الوضوء إلى
المرفق فكذلك في التيمم ؟ فهل يبنى المطلق على المقيد في هذه الحالة ؟ الجواب :
عليك بالنظر في السبب والحكم ، فسبب الدليل المطلق الذي هو آية التيمم سببه بيان
التيمم ، وسبب الدليل المقيد بيان الوضوء ، والوضوء شيء والتيمم شيء آخر ، فهما
مختلفان في الحد والكيفية ، وحكم الدليل المطلق وجوب مسح اليد بالصعيد الطيب ،
وحكم الثانية وجوب غسل اليد بالماء ، والمسح شيء والغسل شيء آخر ، فإذاً المطلق
والمقيد هنا قد اختلفا في الحكم والسبب فلا يبنى حينئذٍ المطلق على المقيد ، هكذا
مثل به بعض الأصوليين ، وسيأتي المثال نفسه في الحالة الثالثة إن شاء الله تعالى .
فإن قلت : كيف تقول لا يبنى المطلق على المقيد في هذه الحالة وقد قال جمع
من العلماء بأن اليد في التيمم تمسح إلى المرفق ؟ فأقول : إن الذين قالوا ذلك إنما
استدلوا بأمرين , أولاً : بالقياس على الوضوء ولكنه قياس باطل لأنه مع الفارق . الثاني
: بحديث ابن عمر يرفعه (( التيمم ضربتان, ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ))
وهو حديث صريح لكنه لا يصح من جهة سنده . بهذين استدلوا فيما أعلم ، لكن وإن قال
بعضهم بأن المطلق يبنى على المقيد هنا فهو كلام باطل أيضاً لأن المطلق والمقيد هنا
مختلفان في الحكم والسبب . والصواب في هذا أن اليد في التيمم تمسح إلى الرسغ لحديث
عمار في الصحيحين ولأن اليد إذا أطلقت فإنه يراد بها الكف فقط ، وإن أريد غير ذلك
فإنه يرد مقيداً هذا هو المعروف باستقراء أدلة الشريعة والله أعلم . فهذه هي
الحالة الأولى فإذا كان المطلق والمقيد مختلفين في السبب والحكم فإنه لا يحمل
أحدهما على الآخر بل يعمل بكل منهما في موضعه على دلالته .
الحالة الثانية : أن يتفقا في الحكم والسبب ، أي أن يكون سببهما واحداً ، فهنا لاشك يبنى
المطلق على المقيد بإجماع أهل العلم فيما أعلم وإن كان بعضهم ذكر خلافاً عن
الحنفية لكن لا أظنه يصح عن إمامهم - عليه الرحمة والرضوان وأدخله الله فسيح
الجنان - فالإجماع هنا قد نص عليه كبار أئمة أهل الأصول وفحوله كالقاضي الباقلاني
وابن فورك والقاضي عبد الوهاب والكيا الطبري والشريف أبي عبد الله التلمساني وأي
كلام مع نقل هؤلاء الفحول الكبار . وابن برهان أيضاً نقل في الأوسط خلاف أصحاب
أبي حنيفة في هذا القسم وصحح مذهبهم أنه يحمل ، ونقل أيضاً أبو زيدٍ الحنفي
وأبو منصور الماتريدي عن أبي حنيفة أنه يقول بالحمل في هذه الصورة ،
فتحرر والله أعلم أن المسألة شبه إجماع أو إجماع . وهذه الحالة لها أمثلة كثيرة
جداً لكن قبل الدخول فيها أود أن أوضح لك ما معنى قولنا (يحمل) أو (يبنى) المطلق
على المقيد ، ومعناه : أن نجعل هذا القيد الوارد مقيداً للدليل المطلق ، فالإطلاق
ينتهي وسيتضح أكثر مع سياق الفروع الفقهية ، فأقول :
منها : الدم ورد مطلقاً وورد مقيداً في قوله
] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [ فلم يحدد دماً ؟ ولم يصفه بشيء ، فهو دم مطلق ، وورد مقيداً في قوله ] أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [ فقيد الدم بكونه مسفوحاً وسبب الأول : سياق المحرمات من الأطعمة ، وسبب
الثاني أيضاً سياق المحرمات من الأطعمة ، فهما متفقان في السبب وحكم الأول تحريم
الدم ، وحكم الثاني أيضاً تحريم الدم فهما
أيضاً متفقان في الحكم فالمطلق والمقيد هنا متفقان في الحكم والسبب ، فسببهما واحد
وحكمهما واحد ، فيحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة فنقول : إنما الدم المحرم
هو الدم المسفوح فالدم المطلق في آية
المائدة مقيد بكونه مسفوحاً كما في آية الأنعام فانتهى الإطلاق بعد هذا
القيد ولذلك فالراجح أن الدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح وخروج الدم
المسفوح أنه دم طاهر وعليه يحمل حديث عائشة (( فنأكله وخطوط الدم على القدر )) . وكذلك
دم الجرح أيضاً طاهر لعدم الدليل الدال على نجاسته والأصل في الأعيان الطهارة ومن
نجسها فعليه الدليل ، ولا يستدل عليه بقوله تعالى ] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [ لأن الدم المراد هنا هو الدم المسفوح لوروده مقيداً في آية الأنعام مع
الاتفاق في الحكم والسبب والله أعلم .
ومنها : ولي النكاح وشهوده ، فقال النبي r (( لا نكاح إلا بولي وشهود )) فالولي هنا مطلق وكذلك الشهود ، وقال عليه
الصلاة والسلام (( لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدلٍ )) فورد الولي هنا مقيداً
بالرشد والشهود قيدوا بالعدالة فهل يحمل المطلق على المقيد هنا ؟ الجواب : ننظر
أولاً في السبب والحكم ، فسبب الأول : بيان شروط النكاح ، وسبب الثاني : أيضاً
بيان شروط النكاح ، فهما إذاً متفقان في السبب ، وحكم الأول اشتراط الولي والشهود
، وحكم الثاني أيضاً اشتراط الولي والشهود لكن بصفةٍ زائدة ، فهما أيضاً متفقان في
الحكم ، فالمطلق والمقيد إذاً اتحد سببهما وحكمهما فلاشك بحمل المطلق على المقيد
في هذه الحالة فنقول : يشترط الرشد في
الولي ويشترط العدالة في الشهود وهو القول الصحيح والله أعلم .
ومنها : قوله r (( إذا فرغ أحدكم من التشهد فليستعذ بالله من أربع يقول : اللهم إني أعوذ
بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال
)) متفق عليه فإن لفظ (التشهد) لفظ مطلق
لم يحدد بما إذا كان الأول أو الأخير ، لكن ورد في رواية مسلم ((إذا فرغ أحدكم من
التشهد الأخير فليقل)) فهنا ورد التشهد مقيداً ، وسببهما بيان سنية الدعاء في
التشهد ، وحكمهما استحباب هذا الدعاء ، فلاشك يبنى المطلق على المقيد في هذه
الحالة فلا يسن هذا الدعاء إلا في التشهد الأخير .
ومنها : زكاة الغنم ، فإن الغنم وردت مطلقة
ومقيدة ، فوردت مطلقة في قوله r (( في أربعين شاةٍ شاة )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم ،
فالغنم هنا لم توصف بشيء يقيدها فيدخل فيها السائمة والمعلوفة ، ووردت مقيدة
بوصف (السوم) في قوله r ((وفي صدقة الغنم في سائمتها)) وفي رواية (( في سائمة الغنم إذا كانت
أربعين ففيها شاة )) أخرجه البخاري ، فهل يبنى المطلق على المقيد هنا ؟ الجواب
: ننظر في سببهما وحكمهما ، أما سببهما فبيان وجوب زكاة الغنم ، فهما متفقان في
السبب ، وأما حكمهما فهو وجوب الزكاة في الغنم فهما أيضاً متفقان في الحكم فلاشك
في بناء المطلق على المقيد في هذه الحالة فنقول : لا زكاة إلا في الغنم السائمة
الحول أو أكثره ، أما المعلوفة فلا زكاة فيها والله أعلم .
ومنها : قوله تعالى ] وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [ فهو مطلق في الذكر فلم يحدد نوعاً دون نوع وقال النبي r (( تحريمها التكبير )) وهذا مقيد في تحديد هذا الذكر وسببهما : الأمر
بذكر الله تعالى عند الصلاة وحكمهما وجوب هذا الذكر لكنه مطلق في الأولى مقيد في
الثانية فيحمل حينئذٍ المطلق على المقيد ، فنقول : إن المراد بقوله تعالى ]وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ[ المراد به قوله (الله أكبر) لحديث علي هذا فلا يجزئ غيرها عنها ،
فالاستدلال بالآية على جواز الدخول في الصلاة بأي ذكر ليس بصحيح لأنها قيدت
بالتكبير وإذا قيد المطلق بشيء فإن دلالته تكون مقصورة على هذا القيد لا تتعداه
إلى غيره ، والله أعلم .
ومنها : رفع الإصبع في الصلاة ، فإنه ورد
مطلقاً ومقيداً ، فورد مطلقاً في حديث ابن عمر قال "كان النبي r إذا قعد في الصلاة وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى واليسرى على اليسرى
وعقد ثلاثاً وخمسين وأشار بإصبعه السبابة " رواه مسلم ، فرفع الإصبع هنا مطلق
في كل قعود وبذلك استدل من قال بمشروعية رفع الإصبع في الجلسة بين السجدتين لأنها
قعود في الصلاة ، لكن ورد رفع الإصبع مقيداً في بعض الروايات الصحيحة أنه رفع في
التشهد فقط ، وسببهما واحد وحكمهما واحد فالمطلق هنا يحمل على المقيد ، فنقول :
إنما السنة في رفع الإصبع أن يكون في قعود التشهد لا غيره ، لأن جميع الروايات
المطلقة في القعود قيدت بقعود التشهد ، فمن اعتقد سنية رفع الإصبع في الجلوس بين
السجدتين فليأت بدليل غير هذه الأدلة المطلقة لأنها قد قيدت ، وإذا قيد المطلق
فإنه لا يستدل به إلا على ما قيد به فقط ، والله أعلم
ومنها : قوله تعالى في نفقة النساء ] فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ [ فهو مطلق في هذه النفقة لكن قيدت هذه النفقة بقوله r (( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف )) وسببهما واحد ، وحكمهما واحد وهو وجوب
نفقة النساء ، فيحمل المطلق على المقيد , فنقول : إنما الواجب في النفقة هو ما
قرره العرف لقوله تعالى ] ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف [ فما عده الناس من النفقة الواجبة فهو
واجب وما عدوه من النفقة المستحبة فهو مستحب وذلك حملاً للمطلق على المقيد ، والله
أعلم .
ومنها : الرضاع فإنه ورد مطلقاً ومقيداً ،
فالمطلق في قوله تعالى ] وأخواتكم من الرضاعة [
وقوله r (( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب
)) فهو مطلق لم يحدد عدداً للرضعات التي بها يكون مُحَرِّماً ، لكنه ورد
مقيداً في حديث عائشة المشهور " ثم نسخن بخمسٍ معلومات " وسببهما واحد
وحكمهما واحد ، فيبنى المطلق على المقيد ، فنقول : لا يحرم الرضاع إلا إذا كان
بخمس رضعات معلومات ، حملاً للمطلق على المقيد .
ومنها : قوله تعالى ] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ فهو مطلق في اليد لأنها لم تحدد ، لكن ورد ذلك مقيداً في قراءة عبد الله
بن عمرو بن العاص باليمين وهي قراءة شاذة لكنها حجة إذا صح سندها ، وقيد أيضاً
بفعل النبي r فإنه قطع يمين السارق وكذلك قيد بفعل الخلفاء الراشدين وبإجماع المسلمين
من بعدهم ، وبأن اليد إذا أطلقت إنما يراد بها الكف لا غير ، فكل ذلك يعد
مقيداً لليد في الآية ، فنقول : يد السارق والسارقة تقطع من مفصل الكف حملاً
للمطلق على المقيد.
ومنها : صيام كفارة اليمين ، فإنه ورد مطلقاً
في قوله تعالى ]فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ[ فلم يقيد بالتتابع لكنه ورد
مقيداً به في قراءة ابن مسعود (فصيام ثلاثة أيامٍ متتابعات) وهي قراءة شاذة لكنها
حجة إذا صح سندها ، فيحمل المطلق على المقيد فنقول : لابد أن يقع صيام كفارة
اليمين متتابعاً ، ولا يفصل إلا لعذرٍ حملاً للمطلق على المقيد .
ومنها : صدقة الفطر عن الرقيق ، فإنها وردت
مطلقة في حديث ابن عمر ، ووردت مقيدة بالمسلمين في بعض الروايات الصحيحة ، فيحمل
المطلق على المقيد للاتفاق في السبب والحكم فنقول : إنما تجب صدقة الفطر على الرقيق
المسلمين دون الكافرين لهذا القيد ، ولأنها طهرة للصائم من اللغو والرفث والكافر
لا طهرة له إلا بالإسلام .
ومنها : أحاديث جر الثوب ، فإنها وردت مطلقة
ومقيدة ، فوردت مطلقة في قوله r (( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم
عذاب أليم المسبل إزاره )) الحديث ، وفي قوله (( ما أسفل الكعبين من الإزار ففي
النار )) ، وورد مقيداً بالخيلاء في قوله r (( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة )) وقال لأبي بكرٍ ((
إنك لست ممن يجره خيلاء )) وسببهما بيان حكم الإسبال ، وحكمهما تحريم الإسبال ،
فهما إذاً متفقان في الحكم والسبب فيحمل المطلق على المقيد . فنقول : لا يحرم
الإسبال إلا إذا كان من باب الخيلاء والفخر ، أما إذا كان لعذرٍ كعيبٍ في القدم
ونحو ذلك ، ولم يقصد صاحبه الخيلاء فإنه لا بأس به لأن الأحاديث المطلقة في تحريم
الإسبال قيدت بالخيلاء فلا يعمل بها في غير المقيد ، وإذا نظرت فإن الغالب من يجر
ثوبه إنما يجره للزينة والفخر وهذا هو الخيلاء ، ولذلك يكثر هذا في أرباب الأموال
والمناصب نعوذ بالله من حالهم فهذه غيض من
فيض من أمثلة الحالة الثانية ، وهي فيما إذا اتفق المطلق والمقيد في الحكم
والسبب وقلنا إذا اتفق المطلق والمقيد في
الحكم والسبب فإن يبنى المطلق على المقيد ولعلها قد اتضحت إن شاء الله تعالى .
الحالة الثالثة : أن يختلفا في الحكم ويتفقا في السبب ، أي أن يكون سبب ورودهما واحداً ،
لكن حكمهما مختلف ففي هذه الحالة لا يبنى المطلق على المقيد ، وقد نقل بعضهم
الإجماع على هذا لكنه مدخول لثبوت الخلاف ، لكن الصواب هو عدم الحمل في هذه
الحالة لاختلاف الحكم في كلٍ منهما .
ومثال ذلك : أن الظهار
موجب للكفارة وكفارته مرتبة من ثلاثة أشياء ، من تحرير رقبةٍ قبل أن يتماسا ، فإن
لم يجدها ، فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ، فإن لم يستطيع فإطعام ستين
مسكيناً ، فكل هذه الكفارات سببها واحد وهو الظهار فهي متفقة في السبب ، إلا أن
الحكم في الرقبة والصيام مقيد بأن يكون قبل المسيس ، والإطعام مطلق لم يقيد بشيء ،
فهل يقال إن الإطعام أيضاً يكون قبل المسيس حملاً للمطلق على المقيد أو لا ؟ أقول
: فيه خلاف بين أهل العلم فالذين يقولون بأن المطلق يحمل على المقيد في هذه الحالة
قالوا : يقيد ، والذين قالوا لا يحمل قالوا : لا يقيد ، وهو الصواب إن شاء الله
تعالى لأن الحكم مختلف ، والمطلق والمقيد إذا اتفقا في السبب واختلفا في الحكم
فإنهما لا يتداخلان .
ومثلوا له أيضاً باليد المطلقة
في التيمم في قوله ] فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [ فسببه القيام للصلاة مع الحدث ، وحكمه وجوب المسح ، مع قوله تعالى في
الوضوء ] وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [ فسببه أيضاً القيام للصلاة مع الحدث ، وحكمه وجوب الغسل ، فهما متفقان في
السبب إذ سبب كلٍ منهما القيام للصلاة مع الحدث ، لكنهما اختلفا في الحكم ، فحكم
اليد في التيمم المسح وحكمها في الوضوء الغسل والمسح يختلف عن الغسل ، فلا يبنى
المطلق على المقيد في هذه الحالة وقد قدم ذكر الخلاف في هذه المسألة قبل قليل .
ووضع هذا الفرع هنا أصح عندي لأن السبب في الآيتين واحد ليس بمختلف ، والله أعلم .
ومثلوا له أيضاً بصيام الظهار
فإنه يشترط فيه التتابع كما مضى ، وأما الإطعام فإنه لم يشترط فيه التتابع وسببهما
واحد وهو الظهار ، لكن الحكم مختلف فهذا صيام وهذا إطعام ، فهل نحمل المطلق على
المقيد ونقول كما أن الصيام يشترط فيه التتابع فكذلك الإطعام يشترط التتابع ، هل
نقول ذلك أو لا ؟ الجواب : فيه خلاف ينبني على أن المطلق هل يحمل
على المقيد في هذه الحالة أم لا ؟ وقد رجحنا أنه لا يحمل في هذه الحالة فحينئذٍ
فالصواب أن الإطعام لا يشترط فيه التتابع ، وإنما التتابع في الصوم فقط ، والله
أعلم .
ومثلوا له أيضاً بقوله تعالى في
كفارة اليمين ] إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ [ فأطلق الكسوة وقيد الإطعام بالوسط ، وسببهما واحد وهو اليمين لكن حكمهما
مختلف ، لأن هذا إطعام وهذا كسوة والإطعام غير الكسوة ، فهل يقال يحمل المطلق على
المقيد هنا أو لا ؟ الجواب : فيه خلاف بين أهل العلم والفصل والراجح أنه لا
يبنى لاختلاف الحكم فلا يشترط في الكسوة أن تكون من الوسط بهذا الدليل إلا أنه قد
وردت أدلة أخرى تنهى عن إخراج رديء المال فالوسط في الكسوة يستفاد من أدلة أخرى
غير حمل المطلق على المقيد ، والله أعلم .
وخلاصة هذه الحالة أنه إذا اتفق المطلق والمقيد في السبب لكن اختلفا في
الحكم فإنه لا يبنى أحدهما على الآخر ، والله أعلم .
الحالة الرابعة : وهي عكس الحالة الثالثة وهي أن يتفقا المطلق مع المقيد في الحكم
ويختلفا في السبب أي يكون حكمهما واحد
وسببهما مختلف ، فهل يبنى المطلق على المقيد في هذه الحالة أو لا ؟
أقول فيه خلاف بين أهل العلم وفي مذهبنا روايتان عن الإمام أحمد : فقيل
يحمل المطلق على المقيد وهي الرواية المشهورة ، اختارها القاضي أبو يعلى ، وهي قول
بعض الشافعية والمالكية ، وقيل لا يحمل ، وهي اختيار أبي إسحاق بن شاقلا ، وهو قول
أكثر الحنفية والمالكية ، وقال به بعض الشافعية ، ولكلٍ أدلته ، والراجح
والله تعالى أعلم أنه في هذه الحالة يحمل المطلق على المقيد قياساً للاتفاق في الحكم
، ولها عندي في ذهني بعض الأمثلة :
الأول : قوله تعالى في شهود البيع ] وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [ فأطلق الشهود ولم يشترط فيهم العدالة وقال في شهود الرجعة ] وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ [ فقيدهم بكونهم عدول ، والسبب في الآيتين مختلف ، فسبب الأولى البيع
والثانية الرجعة ، لكن الحكم متفق فحكم كلٍ منهما الأمر بالإشهاد فقد اتفقا في
الحكم واختلفا في السبب ، وقد رجحنا أنه يحمل المطلق على المقيد فيقال : كما أن
شهود الرجعة يشترط فيهم العدالة فكذلك شهود البيع حملاً للمطلق على المقيد ويؤيده
قوله تعالى ] مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ [ .
الثاني : قوله تعالى في رقبة كفارة الظهار ] فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [ فأطلقها ولم يحددها بشيء لا بإيمانٍ ولا غيره ، وقال في رقبة كفارة القتل
] فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [ فقيدها بالإيمان والسبب مختلف
فسبب الأولى الظهار وسبب الثانية القتل ، لكن الحكم واحد وهو وجوب إعتاق الرقبة في
كلٍ ، إذاً قد اتفق المطلق والمقيد في الحكم واختلفا في السبب وقد رجحنا أنه يحمل
المطلق على المقيد في هذه الحالة قياساً للاتفاق في الحكم فيقال : كما أن الرقبة
في كفارة القتل يشترط فيها الإيمان فكذلك أيضاً الرقبة في كفارة الظهار يشترط فيها
الإيمان حملاً للمطلق على المقيد ، ويؤيده قوله r (( أعتقها فإنها مؤمنة )) ولأن الكافر حقه أن يبقى في الرق فإنما
الرق قام به بسبب كفره بالله تعالى .
فهذه هي حالات المطلق والمقيد ، فهي أربع حالات ، يبنى فيها المطلق على
المقيد في حالتين ولا يبنى في حالتين ، وإذا رجعت إلى قاعدة الباب التي نحن بصدد
شرحها وجدت فيها ذكر الحالتين التي يبنى فيها المطلق على المقيد فإننا قلنا (يبنى
المطلق على المقيد عند الاتفاق في الحكم) أي إن العبرة في البناء هو الاتفاق في
الحكم وإذا اتفقا في الحكم فلا يخلو إما أن يتفقا في السبب ، وإما أن يختلفا وفي
كلتا الحالتين فإنه يبنى المطلق على المقيد ، وأما إذا اختلفا في الحكم فلا بناء
سواءٌ اختلفا في السبب أو اتفقا فيه ، فالسبب في كلا الحالات لا عبرة به ، وبالتفصيل
مع الاختصار أقول : الحالات أربع :
الأولى : الاتفاق في
الحكم والسبب فيبنى المطلق على المقيد اتفاقاً .
الثانية : الاتفاق في
الحكم والاختلاف في السبب فيبنى على القول الراجح .
الثالثة : الاختلاف في
الحكم والسبب فلا يبنى اتفاقاً .
الرابعة : الاختلاف في
الحكم والاتفاق في السبب فلا بناء على القول الراجح . والله أعلم . وهذه هي
المسألة الرابعة وهي حالات المطلق مع المقيد .
(المسألة
الخامسة) إن قلت ، فما دليلك على أن المطلق يحمل على المقيد إذا اتفقا
في الحكم والسبب أو في الحكم فقط ؟ فأقول : قد دَلَّ على ذلك عدة أمور :
فمن ذلك : أن القاعدة تنص على وجوب إعمال الدليلين ما أمكن والقول بحمل
المطلق على المقيد فيه إعمال لكلا الدليلين .
ومن ذلك : قياس المطلق مع المقيد على العام مع الخاص ، فكما أنه يبنى
العام على الخاص فكذلك يبنى المطلق على المقيد .
ومن ذلك : تنزيه الشريعة عن وجود التعارض فإننا لو لم نقل ببناء المطلق
على المقيد لأفضى ذلك إلى وجود التعارض في بعض الأحكام والخلاص من ذلك يكون بأمورٍ,
منها : بناء المطلق على المقيد ، فالقول ببناء المطلق على المقيد أصل من أصول
الشريعة في دفع التعارض بين الأدلة .
ومن ذلك : أن الدليل المطلق ساكت عن هذا القيد وسكوته عنه ليس إلغاء له ،
وقد ثبت بدليل آخر فيجب اعتماده ، فهو وإن كان زائداً على دلالة المطلق لكنه
لا يتعارض معها .
ومن ذلك : أن القرآن عربي نزل بالأساليب التي تتعامل بها العرب وزاد عليها
، ومن الأساليب العربية أنها تطلق في مكانٍ وتقيد في مكان ، فيحمل المطلق على
المقيد كما قال قيس بن الحطم :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
والمراد : نحن بما عندنا راضون ، فأطلقها في البيت الأول وقيدها في البيت
الثاني ، والله تعالى أعلم .
(المسألة
السادسة) وهي زيادة فروع فقهية على هذه القاعدة غير التي مضت لعلها
تزداد وضوحاً على وضوحها فأقول :
الأول : قوله تعالى ] وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [ فهذا فيه بيان حكم الردة وأنها محبطة للعمل بمجردها ، فحبوط العمل إذاً
بمجرد الردة ، لكن ورد ذلك مقيداً بقيد آخر وهو الموت على الكفر في قوله ] وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [ فاشترط شرطاً زائداً لحبوط العمل وهو الموت على الردة فيحمل المطلق على
المقيد ، فنقول : إن مجرد الردة لا يحبط العمل المتقدم إلا إذا مات صاحبه ، أما
إذا عاد للإيمان فإنه يعود له ما عمله قبل الردة ، وينبني على ذلك أن صلاته وحجه
وعمرته وصومه وسائر أعماله الصالحة باقية له لا يلزمه إعادتها ، مثاب عليها في
الآخرة أما إذا مات وهو مصر على ردته -
والعياذ بالله تعالى - فإن كل عمل صالح عمله في وقت إيمانه يحبط ويكون هباءً
منثورا .
الثاني : قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ [ قال بعض العلماء : يعني إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت حملاً لهذه
الآية على قوله تعالى ] وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى
إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [ ولعموم الأدلة الدالة على أن من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها وغرغرة
الروح تاب الله عليه ، وأن الله يغفر الذنوب جميعاً ، فلذلك حملنا الآية الأولى
على ما إذا أخر التوبة إلى حضور الأجل جمعاً بين الأدلة بحمل المطلق على المقيد ،
والله أعلم .
الثالث : حديث عائشة في الفواسق الخمس التي تقتل في الحل والحرم ، فإن فيها
"والغراب" هكذا مطلقاً ، لكن ورد في نفس الحديث في رواية لمسلم
"والغراب الأبقع" فيحمل المطلق على المقيد ومن ادعى أن رواية الإطلاق أرجح لاتفاق الشيخين
عليها فلم يصب ، لأنه لا تعارض أصلاً بينهما حتى نرجح ، إذ الجمع ممكن يحمل المطلق
على المقيد وإذا أمكن الجمع فلا يصار إلى الترجيح ، والله أعلم .
الرابع : قضت السنة في المحرم أنه إن لم يجد نعلين فليلبس الخفين ، لكن أمر
النبي r بلبس الخفين مطلقاً ومقيداً ، فأمر بلبسهما مطلقاً أي من غير قطع في حديث
ابن عباسٍ وجابر رضي الله عنهما وورد
لبسهما مقيداً بالقطع أي بقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين في حديث ابن عمر وسببهما واحد وحكمهما واحد ، فلا شك في بناء
المطلق على المقيد هنا ، فنقول : المحرم إذا لم يجد النعلين فله أن يلبس الخفين
وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ، وهذا الجمع هو الواجب بين هذه الأحاديث ،
وهو أصح من مذهب من قال بأن القطع منسوخ لتأخير حديث ابن عباس وجابر وليس فيهما
الأمر به ، لأننا نقول : قد تقرر في الأصول أنه إذا أمكن الجمع فلا تعارض وهنا يمكن الجمع بحمل المطلق على المقيد
وخصوصاً مع الاتفاق في الحكم والسبب كما هنا
ومجرد تأخر المطلق عن المقيد لا يضر ، كما أنه لم يضر تأخر العام على الخاص
.
الخامس : ركوب الهدي ، فقد ورد جواز ركوبه مطلقاً كما في حديث ((اركبها)) فقال
الرجل إنها هدي ، فقال ((اركبها)) فهذا فيه جواز ركوب الهدي هكذا مطلقاً ، لكن وقع
في رواية مسلم أن النبي r قال للرجل (( اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً ))
فهذا قيد لجواز ركوب الهدي ، وهو إذا دعت لركوبه الحاجة والضرورة ، فهو قيد لابد
من اعتباره ، فنقول : يجوز ركوب الهدي إذا دعت له الحاجة والضرورة فحملنا المطلق
على المقيد للاتفاق في الحكم والسبب .
السادس : أقول :- لقد استدل المعتزلة القدرية على إخراج
مشيئة العبد واستقلاليتها عن كونها مخلوقة لله تعالى بالأدلة الدالة على أن نسبة
الفعل لمشيئة العبد ] مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [ فأثبت للعبد إرادة، وبقوله تعالى ] مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [ وقال تعالى ] فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [
ونحوها من النصوص القرآنية والنبوية الدالة على أن للعبد إرادة،
وأنه هو العامل الكاسب الراكع الساجد ونحو ذلك من النصوص من الكتاب والسنة ، مما
ينسب فعل العبد له ، وأنه المريد ، ويقال لهم :- إن الآيات والأحاديث التي
استدللتم بها نوعان: نوع مقيد لإرادة العبد وعمله بأنه بمشيئة الله; كقوله تعالى ] لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَما
تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ وقوله ] إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً
وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً
حَكِيماً [ وكقوله تعالى
في العمل ] وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ
وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [ والنوع
الثاني: مطلق; كقوله تعالى ] فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [
وقوله ] فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [ وقوله ]مَنْ كَانَ
يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ[ إلى قوله ] وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا
سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [ وهذا النوع المطلق يحمل على المقيد كما هو معلوم
عند أهل العلم ، فالآيات والنصوص التي تنسب فعل العبد له ، لا تؤخذ على إطلاقها ،
بل لا بد وأن تقيد بالنصوص الأخرى التي تربط فعل العبد ومشيئته بمشيئة الله تعالى
وإرادته ، لأن الآيات التي تنسب فعل العبد له مطلقة ، والآيات التي نقيدها بمشيئة
الله تعالى مقيدة ، والمتقرر في القواعد أن المطلق لا بد وأن يحمل على المقيد إن
اتفقا في الحكم والسبب ، والله أعلم .
السابع : في قول
النبي صلى الله عليه وسلم " الإسلام يهدم ما كان قبله " ولأحمد "
الإسلام يجب ما كان قبله " وقبل ذلك قوله تعالى ]
قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا
قَدْ سَلَفَ [ فهذه النصوص
مطلقة في هذه المغفرة والتجاوز ، ولكن روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في الصحيح
من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ " مَنْ أَحْسَنَ فِي
الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , وَمَنْ أَسَاءَ
فِي الْإِسْلَامِ أُوخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ" فَهَذَا مُقَيَّدٌ , وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ
مُطْلَقٌ وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَاجِبٌ فَهَدْمُ الْإِسْلَامِ
مَا كَانَ قَبْلَهُ مَشْرُوطٌ بِالْإِحْسَانِ . فلا بد من الانتباه لهذا القيد
المهم ، فالمغفرة الكاملة لما مضى مشروطة بالإحسان فيما يستقبل بعد الدخول في
الإسلام ، فهذا الحديث مقيد لما أطلق في النصوص الأولى ، والمتقرر أن المطلق يبنى
على المقيد ‘ن اتفقا في الحكم والسبب ، كما هو الحال هنا ، والله أعلم .
الثامن : من عجائب
أهل البدع أنهم يستدلون على بدعتهم بالأدلة من الكتاب والسنة ، ويأتون في ذلك
بالعجب من السخف وقلة الأدب ، بكل صفاقة ورعونة ، فمن ذلك أن طائفة من أهل البدع
يقولون :- إنه لا يمكن وأن يقع الشرك في الأمة مرة أخرى ، واستدلوا بالروايات في حديث
الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ، ولكنهم عمدوا إلى الروايات المطلقة ، كقوله
صلى الله عليه وسلم «ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم
حتى يأتي أمر الله» فهنا حكم النبي صلى الله عليه وسلم حكما عاما على الأمة كلها
أنها ستبقى على أمر الله تعالى لا يضرها كفر الكافر ولا جور الجائر ولا بغي الباغي
، حتى يأتيها أمر الله تعالى ، فالرواية هنا كما تراها مطلقة في الأمة كلها ، وهذه
الرواية عند البخاري في كتاب العلم ، وهناك رواية أخرى عند البخاري أيضا في كتاب
الاعتصام ، وهي تفيد أن الأمة كلها ستبقى على الحق ، وهي قوله صلى الله عليه وسلم
«ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون» وهذا حكم
عام على الأمة كلها ، وهذا في الحقيقة عمى في الاستدلال ، وأخذ بما يتفق مع الهوى
والرأي فقط ونسف لما عداه ، فلو أنهم جمعوا روايات هذا الحديث لتبين لهم وجه الحق
وأسفر لهم نور النهار ولكنهم أهل أهواء ،
لا يأخذون من الأدلة إلا ما يظنون أنه يتفق مع أهوائهم العفنة وأفهامهم المنتنة والحق أن هذا الروايات لا بد وأن تحمل على
المقيد منها ، فإنه قد وردت هذه الروايات مقيدة ببعض الأمة بـ( من ) المفيدة
للتبعيض ، وتكون النجاة لبعض الأمة ، وأن الطائفة المنصورة والفرقة الناجية إنما
هي بعض الأمة لا كلها ، كم في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يزال من أمتي أمة قائمة
بأمر الله» رواه البخاري ، وكما جاء في كتاب الاعتصام من صحيح البخاري أيضا بلفظ
«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون " و جاء في
كتاب التوحيد من صحيح البخاري أيضا "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر
الله" والحديث جاء عند مسلم بلفظ «لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى
يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» فانظر إلى هذه الروايات ، فإنها قد وردت بالبعضية ،
فلأن بعض الروايات قد ورد مطلقا ، وبعض الروايات قد ورد مقيدا ، فإنه يجب علينا أن
نبني المطلق على المقيد ، لأن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن ، ولا يمكن الجمع بين
هذه الروايات إلا بالجمع بينها بتقييد المطلق منها بالمقيد ، وهذا هو الحق في هذه
المسألة ، وهو أن النجاة ليست للأمة كلها ، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن
أمته سوف تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، وأخبر بأن الشرك
سوف يقع في هذه الأمة لا محالة ، فقال " لا تقم الساعة حتى تعبد اللات والعزى
" وقال " لا تقم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة "
وهو طاغية دوس الذي كانت تعبده في الجاهلية ، وقال صلى الله عليه وسلم " ولا
تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان
" والنصوص في هذا المعنى كثيرة ، فكيف يرد هذا كله بورود بعض الروايات
المطلقة في بعض أدلة السنة ؟ مع أنها قد وردت مقيدة ، ولكن القوم أهل أهواء ، ومن
المعلوم المتقرر عند أهل السنة أن أهل الأهواء لهم علامات ، ومن أبرز علاماتهم
أنهم لا يأخذون من الأدلة إلا ما يظنون أنه يتوافق مع أهوائهم ومذاهبهم ، والله
المستعان ، وهو أعلى وأعلم .
التاسع : اعلم أرشدنا
الله وإياك للعمل النافع والعمل الصالح أن الأحاديث التي فيها أن من قال أو مات
على لا إله إلا الله دخل الجنة وردت مطلقة في مكان ، ومقيدة في مكان .فمن المطلق
قوله e (( ما من عبدٍ
قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة )) متفق عليه من حديث أبي
ذر وقوله عليه الصلاة والسلام (( من كان
آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة )) ونحوها وأما المقيدة فكقوله e (( من مات وهو
يعلم ألا إله إلا الله دخل الجنة )) وكقوله لأبي هريرة ((فمن لقيت وراء هذا الحائط
يشهد ألا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة)) وكقوله (( أسعد
الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه )) وكقوله (( أشهد ألا إله
إلا الله وأن محمدًا رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيها فيحجب عن الجنة
)) وكقوله (( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله
)) ونحو ذلك .وقد تقرر في الأصول أن المطلق يبنى على المقيد إذا اتفقا في الحكم وحينئذٍ
فيقال : لا تفرحوا أيها المرجئة بالأحاديث المطلقة فإن الواجب هو بناؤها على
المقيدة ، وحينئذٍ فيكون قولها لوحده ليس بكافٍ لترتب الأثر ، بل لابد فيه من
تحقيق القيود المذكورة في الأحاديث الأخرى كالإخلاص ، والعلم ، والصدق ، واليقين ،
والمحبة والقبول ، والانقياد ، والكفر
بالطاغوت ، وعلى هذا فليست الأحاديث المطلقة بحجة في أن من قال لا إله إلا الله
ومات عليه فإلى الجنة مباشرة وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما يقوله هؤلاء الأغبياء
الحمقى ، بل لابد من حمل المطلق على المقيد ، وهذا فيه جمع بين الأدلة ، وقد تقرر
أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن ، هذا أولاً . وثانيًا يقال : إن الأحاديث
المطلقة إنما فيها قوله "دخل الجنة" لكن لم يبين هذا الدخول ، هل هو
ابتدائي ؟ أم انتقالي ؟ ولا داعي أن نقحم في كلام الشارع ما ليس منه فنقول : نعم
إن من قالها سيدخل الجنة حتمًا ؛ لأنه لن يخلد في النار أحد مات على
التوحيد ، لكن من أين لكم أنه دخول ابتدائي ؟ فإن هذا شيء فهمتموه من الأدلة
، وفهمكم هذا لا حجة فيه ؛ لأنه مخالف لظواهر الأدلة وحينئذٍ فيقال : إن من مات
عليها - إذا كان عنده بعض الذنوب - فلا يخلو إما أن يغفر الله له ، فهذا يدخل
الجنة ابتداءً ، وإما أن يعذبه في النار ثم يخرجه إلى الجنة فهذا دخلها انتقالاً
إذا هو دخل الجنة ، فالحديث صدق لا ريب في ذلك ، لكن بقي تحديد نوعية الدخول راجعة
إلى مشيئة الله تعالى ، وهذان الجوابان كلاهما صحيح إلا أن الأول كأنه أقرب إلى
الصحة ، والله ربنا أعلى وأعلم .
العاشر : أقول :- لقد
انعقد إجماع أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى على أن الله تعالى يرى في الآخرة
، فيرى في العرصات ، ويرى بعد دخول الجنة ، على الكيفية التي يريدها الله تعالى ،
وقرر أهل السنة رحمهم الله تعالى أن النصوص الواردة في الرؤية بلغت مبلغ التواتر ،
وانعقد إجماع أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى على أن الله تعالى لا تمكن
رؤيته في الدنيا يقظة بعيني الرأس ، وهذا في عامة الأمة ، ولكن اختلف أهل العلم
رحمهم الله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم ، هل رأى ربه ليلة أسري به أو لا ؟
فيه خلاف ، والأكثر على أنه لم يره ، والذي نريد إثباته هنا هو أن من قال :- إن
النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه ، استدل بقول ابن عباس رضي الله عنه "
رأى محمد ربه " فأقول :- لا بد وأن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه قبل أن يموت " فدل ذلك على أن
الرؤية بالعين ممتنعة في الدنيا، أما رؤية الفؤاد فإنها حصلت للنبي صلى الله عليه
وسلم، وكذلك الرؤية في المنام فقد حصلت له صلى الله عليه وعلى آله سلم.وأما ما نقل
عن الإمام أحمد و ابن عباس رضي الله عنهما من إثبات الرؤية في الدنيا فإن المنقول
عنهما مطلق، يعني: الرؤية مطلقاً فلم يقيداها برؤية العين، وفي بعض الروايات وردت
مقيدة، فالمطلق يحمل على المقيد، ولم ينقل عنهما أنهما قالا: إنه رأى ربه سبحانه
وتعالى بعينه في الدنيا.قال أبو العباس رحمه الله تعالى في الفتاوى ( وَأَمَّا
" الرُّؤْيَةُ " فَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ قَالَ " رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ "
وَعَائِشَةُ أَنْكَرَتْ الرُّؤْيَةَ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا
فَقَالَ : عَائِشَةُ أَنْكَرَتْ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَثْبَتَ
رُؤْيَةَ الْفُؤَادِ . وَالْأَلْفَاظُ الثَّابِتَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ
مُطْلَقَةٌ أَوْ مُقَيَّدَةٌ بِالْفُؤَادِ تَارَةً يَقُولُ : رَأَى مُحَمَّدٌ
رَبَّهُ وَتَارَةً يَقُولُ رَآهُ مُحَمَّدٌ ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
لَفْظٌ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ . وَكَذَلِكَ " الْإِمَامُ
أَحْمَد " تَارَةً يُطْلِقُ الرُّؤْيَةَ ؛ وَتَارَةً يَقُولُ: رَآهُ
بِفُؤَادِهِ ؛ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ سَمِعَ أَحْمَد يَقُولُ رَآهُ
بِعَيْنِهِ ؛ لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ سَمِعُوا بَعْضَ كَلَامِهِ
الْمُطْلَقِ فَفَهِمُوا مِنْهُ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ ؛ كَمَا سَمِعَ بَعْضُ النَّاسِ
مُطْلَقَ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفَهِمَ مِنْهُ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ . وَلَيْسَ
فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَلَا ثَبَتَ ذَلِكَ
عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ
عَلَى ذَلِكَ ؛ بَلْ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ عَلَى نَفْيِهِ أَدَلُّ ؛ كَمَا فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْت رَبَّك ؟ فَقَالَ " نُورٌ أَنَّى
أَرَاهُ " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ] سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَرَاهُ نَفْسَهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ ذِكْرُ
ذَلِكَ أَوْلَى . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ]
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [ ] لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [ وَلَوْ كَانَ رَآهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ]
وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [
قَالَ هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَهَذِهِ " رُؤْيَا الْآيَاتِ "
لِأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّاسَ بِمَا رَآهُ بِعَيْنِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ
فَكَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ حَيْثُ صَدَّقَهُ قَوْمٌ وَكَذَّبَهُ قَوْمٌ
وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِأَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ
أَحَادِيثِ الْمِعْرَاجِ الثَّابِتَةِ ذِكْرُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ
ذَلِكَ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ مَا دُونَهُ . وَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ
الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَرَى اللَّهَ أَحَدٌ فِي
الدُّنْيَا بِعَيْنِهِ إلَّا مَا نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ رُؤْيَةِ
نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَاتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا كَمَا
يَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى ، والمقصود من هذا
الفرع هو أن كلام الصحابة في هذه المسألة متفق لا مفترق ، وذلك أن عائشة رضي الله
عنها تنفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه ، والمراد من الرؤية المنفية
هنا إنما هي رؤية العين يقظة ، وابن عباس روي عنه في هذه المسألة نقلان ، الأول:-
أنه قال " رأى محمد ربه " هكذا مطلقا ، والثاني:- قوله " رآه
بفؤاده " أو قال " بقلبه " وهذا نقل مقيد ، ومن مقتضى العدل في
البحث ونسبة الأقوال للعلماء أن نبحث عن كلامهم كله في هذه المسألة ، ثم نوفق بينه
بتخصيص عمومه أو بتقييد إطلاقه ، فما ورد مطلقا عن ابن عباس رحمه الله تعالى في هذه
المسألة لا بد وأن يحمل على المقيد فابن عباس لا يريد رؤية العين وإنما يريد رؤية الفؤاد ، حملا للمطلق على
المقيد كما تقرر في قواعد الأصول ، والله أعلم .
الفرع الحادي
عشر
: أقول :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في نذر المعصية هل فيه كفارة ؟ على
أقوال ، فذهب بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى إلى أنه لا كفارة فيه ، واستدلوا
بقول النبي صلى الله عليه وسلم " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ولم
يوجب الكفارة هنا ، وقال بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى :- بل فيه كفارة يمين ،
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين
" وهو حديث صحيح ، وهذا القول هو الأقرب إن شاء الله تعالى واختاره جمع من
المحققين ، وأما الحديث الأول فلا يخفاك أنه حديث مطلق ، وأما الحديث الثاني فهو
حديث مقيد ، وقد تقرر في القواعد أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب
كما هو الحال هنا ، فلا نذر في معصية ، وإن نذر العبد معصية فلا يجوز له الوفاء به
قولا واحدا ولكن لا بد وأن يكفر عن نذره هذا كفارة يمين ، قال في فتح المجيد وهو
يحكي قول من قال بأن فيه كفارة (وهو المذهب. وروي عن ابن مسعود وابن عباس. وبه قال
أبو حنيفة وأصحابه; لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا " لا نذر في معصية،
وكفارته كفارة يمين " رواه أحمد وأهل السنن واحتج به أحمد وإسحاق. والثاني:
لا كفارة عليه. وروي ذلك عن مسروق والشعبي والشافعي لحديث الباب. ولم يذكر فيه
كفارة. وجوابه: أنه ذكر الكفارة في الحديث المتقدم. والمطلق يحمل على المقيد)
والله أعلم .
الثاني عشر : اختلف أهل
العلم رحمهم الله تعالى في التمر الذي يكون أكله مانع من نفوذ السحر في الجسد بإذن
الله تعالى ، فمن العلماء من أطلق الأمر وفتح الباب ، وجعله من أي نوع كان ومن أهل
العلم رحمهم الله تعالى من فتح الأمر في تمر المدينة خاصة ، ومن أهل العلم من قال
:- المهم أنه لا بد وأن يكون من تمر العجوة ، سواء أكان من المدينة أو من غيرها ،
ومن أهل العلم رحمهم الله تعالى من قال :- لا بد من أن يكون من تمر العجوة ، ولا
بد أن تكون هذه العجوة من المدينة مما بين لابتيها ، وهذا القول عندي هو الأقرب
للدليل والقاعدة ، وبيان ذلك أن نقول , أولا :- إن الأمر في نفع تمر العجوة
من السحر أمر غيبي ، وهذا لا أظن فيه منازعا ، فالأمر مبناه على الغيب وقد تقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن ما
كان من أمور الغيب فإنه لا بد وأن يكون مبنيا على التوقيف ، فيكون الأمر محصورا
فيما ورد فيه الدليل خاصة ، ولا يتعداه إلى غيره لأنه غيب ثانيا :- حيث قررنا أن هذا الأمر من
الأمور الغيبية ، التي لا بد وأن تكون مقصورة على مورد النص فإنه لا بد وأن تعلم
أنه قد تقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أنه لا مدخل للعقول في أمور الغيب ،
لأنها أصلا خارجة عن مدركات العقل ، فالعقل لا شأن في تفاصيل الأمور الغيبية ، كما
هي الحال هنا ، ثالثا :- لقد تقرر عند أهل العلم من أهل السنة والجماعة
رحمهم الله تعالى أنه لا مدخل للقياس في أمور الغيب ، لأن عملية القياس أصلا لا بد
وأن تكون في الأمر الذي تعلم علته ولا بد
وأن تكون في الأمر الذي يدخل تحت فهم العقل وإدراكه ، وهذه المسألة التي نحن
بصددها أمر غيبي ، رابعا :- لما نظرنا إلى الأدلة الواردة في هذه المسألة
وجدنا أنها وردت على وجهين :- على وجه الإطلاق وعلى وجه التقييد ، وأنا أذكر لك
بعضها حتى نتفحص ما فيها من الدلالات ونخرجها على القواعد المقررة في الشريعة ، فعن
عامر بن سعد ، عن أبيه قال قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " من اصطبح كل
يوم بتمرات عجوة لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل " فهنا ذكر العجوة
ولم يقيدها بمنطقة معينة ، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " العجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السم ، والكمأة من المن ، وماؤها
شفاء للعين " وهنا مدح العجوة على وجه الإطلاق من غير تقييد بالمدينة ولا
بغيرها ، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن في عجوة
العالية شفاء - أو إنها ترياق - في أول البكرة " فهنا ذكر العجوة ولكنه قيدها
بعجوة العالية ، وهي من قرى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم
، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أكل سبع تمرات عجوة ما بين لابتي
المدينة حين يصبح لم يضره يومه ذلك شيء حتى يمسي " فهنا ذكر العجوة ولكنه
قيدها بقوله " مما بين لابتيها" أي المدينة ، فكان من مقتضى الصناعة
الأصولية أن نحمل المطلق على المقيد ، لأن الحكم هنا واحد والسبب واحد ، وقد تقرر
في القواعد أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، والمسألة
اجتهادية ، ولا تضييق فيها ، وهذا ما رآه العبد الضعيف ، وإن رأيت أنت غيره فاعمل
بما تراه أنه الحق ، والله يتقبل منا ومنك ويعافينا وإياك من التعصب إلا لما صح به
النص, قال القرطبي رحمه الله تعالى (ظَاهِر الْأَحَادِيث خُصُوصِيَّة عَجْوَة
الْمَدِينَة بِدَفْعِ السُّمّ وَإِبْطَال السِّحْر وَالْمُطْلَق مِنْهَا مَحْمُول عَلَى
الْمُقَيَّد ، وَهُوَ مِنْ بَاب الْخَوَاصّ الَّتِي لَا تُدْرَك بِقِيَاسٍ ظَنِّيّ
) والله أعلم.
الثالث عشر : قال العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان ( ولم يبين الله تعالى في هذه الآية
أعني: قوله جل وعلا ] وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [
اشتراط العدالة في الشهود، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله ]
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [ وقوله ] وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [
وقد تقرر في الأصول أن المطلق يحمل على المقيد كما بيناه في غير هذا الموضع )
والله أعلم .
الفرع الرابع
عشر
: وقال رحمه الله تعالى أيضا في أضواء البيان ( المسألة الثالثة: الحيوان البري
ثلاثة أقسام: قسم هو صيد إجماعاً، وهو من كل وحشي حلال الأكل كالغزال ، فيمنع قتله
للمحرم وإن قتله فعليه الجزاء. وقسم ليس بصيد إجماعاً، ولا بأس بقتله، وقسم اختلف
فيه.أما القسم الذي لا بأس بقتله، وليس بصيد إجماعاً فهو الغراب، والحدأة، والعقرب،
والفأرة، والكلب العقور.وأما القسم المختلف فيه: فكالأسد، والنمر، والفهد والذئب،
وقد روى الشيخان في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب،
والفأرة، والكلب العقور.
وفي
الصحيحين أيضاً عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خمس من
الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح" ثم عد الخمس المذكورة آنفاً، ولا شك أن
الحية أولى بالقتل من العقرب.وقد أخرج مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر محرماً بقتل حية بمنى، وعن ابن عمرو سئل: ما يقتل الرجل من الدواب وهو
محرم؟ فقال: حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور،
والفأرة، والعقرب، والحدأة، والغراب، والحية رواه مسلم أيضاً.والأحاديث في الباب
كثيرة والجاري على الأصول تقييد الغراب بالأبقع، وهو الذي فيه بياض، لما روى مسلم
من حديث عائشة في عد الفواسق الخمس المذكورة، "والغراب الأبقع" والمقرر
في الأصول حمل المطلق على المقيد، وما أجاب به بعض العلماء من أن روايات الغراب
بالإطلاق متفق عليها، فهي أصح من رواية القيد بالأبقع لا ينهض، إذ لا تعارض بين
مقيد ومطلق، لأن القيد بيان للمراد من المطلق.ولا عبرة بقول عطاء، ومجاهد، بمنع
قتل الغراب للمحرم، لأنه خلاف النص الصريح الصحيح، وقول عامة أهل العلم، ولا عبرة
أيضاً بقول إبراهيم النخعي: إن في قتل الفأرة جزاء لمخالفته أيضاً للنص وقول عامة
العلماء، كما لا عبرة أيضاً بقول الحكم، وحماد، لا يقتل المحرم العقرب، ولا الحية
، ولا شك أن السباع العادية كالأسد، والنمر، والفهد، أولى بالقتل من الكلب، لأنها
أقوى منه عقراً وأشد منه فتكاً ) والمهم أنه قيد الغراب بالأبقع ، مع أنه قد ورد
في بعض الروايات بلا هذا القيد ولكن
المتقرر في الأصول أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب كما هو
الحال هنا والله أعلم .
الفرع الخامس
عشر
: وقال رحمه الله تعالى في الأضواء ( اعلم
أن العلماء اختلفوا فيمن نذر نذراً لا يلزم الوفاء به هل تلزمه كفارة يمين، أو لا
يلزمه شيء؟ وحجة من قال: لا يلزمه شيء: هو حديث نذر أبي إسرائيل، أنه لا يقعد ولا
يتكلم، ولا يستظل، وقد أمره النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المذكور
آنفاً: أنه لا يفي بهذا النذر، ولم يقل له إن عليه كفارة يمين. وقد قدمنا هذا في
سورة مريم موضحاً. وقد قدمنا أن القرطبي قال في قصة أبي إسرائيل: هذه أوضح الحجج
للجمهور في عدم وجوب الكفارة، على من نذر معصية، أم ما لا طاعة فيه. فقد قال مالك:
لما ذكره ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره بالكفارة، وأما الذين
قالوا: إن النذر الذي لا يجب الوفاء به تجب فيه كفارة يمين فقد احتجوا بما رواه
مسلم، في صحيحه: وحدثني هارون بن سعيد الأيلي، ويونس بن عبد الأعلى، وأحمد بن
عيسى، قال يونس: أخبرنا وقال الآخران: حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن
كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر رضي الله
عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفارة النذر كفارة اليمين"
ا.هـ. وظاهره شموله للنذر الذي لا يجب الوفاء به.وقال النووي في شرح مسلم: اختلف
العلماء في المراد به، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج، وهو أن يقول إنسان
يريد الامتناع من كلام زيد مثلاً: إن كلمت زيداً مثلاً، فلله علي حجة، أو غيرها،
فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين، وبين ما التزمه. هذا هو الصحيح في مذهبنا،
وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله: علي نذر، وحمله أحمد وبعض
أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر وحمله جماعة من فقهاء أصحاب
الحديث، على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع المنذورات بين الوفاء بما
التزم، وبين كفارة يمين والله أعلم اهـ. كلام النووي.ولا يخفي بعد القول الأخير
لقوله تعالى ] وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [
فهو أمر جازم مانع للتخيير بين الإيفاء به، وبين شيء آخر.والأظهر عندي في معنى
الحديث: أن من نذر نذراً مطلقاً كأن يقول: علي لله نذر أنه تلزمه كفارة يمين، لما
رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين" وروي نحوه أبو داود، وابن
ماجه، عن ابن عباس، وفي الحديثين بيان المراد بحديث مسلم، بأن المراد به: النذر
المطلق الذي لم يسم صاحبه ما نذره، بل أطلقه والبيان يجوز بكل ما يزيل الإيهام،
كما قدمناه مراراً، والمطلق يحمل على المقيد) وهو كما قال رحمه الله تعالى .
الفرع السادس
عشر
: قال أبو حفص عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي رحمه الله تعالى في تفسيره
الموسوم باللباب في علوم الكتاب ( فإن قيل : إنَّه تعالى قال ] ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ وقال هنا ] أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [
وقال ] أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ
خُلَفَاء الْأَرْضِ [ ثم إنا نرى
الداعي يبالغ في الدَّعَواتِ والتضرُّع ، فلا يجاب . فالجوابُ من وجوه : أحدها :
أن هذه الآيات ، وإن كانت مطلقةً إلاَّ أنه وردت في آية أخرى مقيَّدة ، وهو قوله
تعالى ] بَلْ إِيَّاهُ
تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ [
والمطلق يحمل على المقيَّد) يعني أن الآيات التي فيها أن الله تعالى هو مجيب
الدعوات وقاضي الحاجات ، لا تؤخذ لوحدها ، بل لا بد من النظر في النصوص الأخرى
الدالة على أن استجابة الدعوات لها شروط وتكتنفها موانع ، فمن دعا وقد حقق هذا
فتخلى عن الموانع وامتثل الشروط فهو المجاب ، وأما من وقع في تفويت شرط أو اقترف
مانعا من الموانع فأنى يستجاب له ، كما قال صلى الله عليه وسلم " ومطعمه حرام
ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك " والله المستعان ،
والمهم في هذا الفرع أن تعلم أن الآيات الواردة على وجه الإطلاق في إجابة الدعاء ،
لا بد وأن تحمل على النصوص الواردة في بيان شروط الإجابة وموانعها ، لأن المتقرر
في القواعد أن المطلق يحمل على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله تعالى
أعلى وأعلم .
الفرع السابع
عشر
: قال تعالى ] وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ
[ فذهب بعض أهل
العلم رحمهم تعالى إلى أن المتعة بعد الطلاق حق لكل مطلقة ، استدلالا بالإطلاق في
هذه الآية وذهب بعض أهل العلم رحمهم تعالى
إلى أن المتعة تكون من الأمور الواجبة في حق من طلقت قبل فرض المهر والمسيس ، وأما
في حق غيرها فهي من السنن والأمور الكمالية فقط لا من الواجبات واستدلوا على ذلك بقوله تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ
فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ
وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [
وقال تعالى ]لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا
لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا
عَلَى الْمُحْسِنِينَ[ وهذا القول
عندي هو الأقرب إن شاء الله تعالى ، وهو أن المتعة الواجبة إنما تكون في حق
المطلقة قبل فرض المهر والمسيس ، وأما المتعة المندوبة فهي عامة لكل مطلقة ، وقلنا
هذا حملا للمطلق على المقيد ، كما تقرر في الأصول ، قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله
تعالى في تفسيره على قول الله تعالى ]
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [
قال ( أي: لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على كل متق، جبرا لخاطرها وأداء لبعض
حقوقها، وهذه المتعة واجبة على من طلقت قبل المسيس والفرض ، سنة في حق غيرها كما
تقدم، هذا أحسن ما قيل فيها، وقيل إن المتعة واجبة على كل مطلقة احتجاجا بعموم هذه
الآية، ولكن القاعدة أن المطلق محمول على المقيّد، وتقدم أن الله فرض المتعة
للمطلقة قبل الفرض والمسيس خاصة ) والله تعالى أعلى وأعلم .
الفرع الثامن
عشر
: أقول :- إن أحاديث المسح على الخفين باعتبار التوقيت من عدمه قد وردت على وجهين
:- ورد بعضها مطلقا عن التوقيت ، وورد بعضها مؤقتا ، فمن الأول :- حديث ثوبان رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمرهم أن يمسحوا على العصائب
والتساخين ... فأمر بالمسح ولم يوقت فيه وقتا ، وعن عمر رضي الله عنه موقوفا وعن
أنس مرفوعا " إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما وليصل فيهما ولا
يخلعهما إن شاء إلا من جنابة " أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه ، ولكن هذا
الإطلاق في الأمر بالمسح من غير تحديد لمدة معينة ليس على حاله ، بل ورد في الأدلة ما يقيده ،
فالقول الصحيح والرأي الراجح المليح هو أن المسح على الخفين مؤقت بالمدة المحددة ،
بيوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ، وبذلك وردت الأدلة الصحيحة
التي لا مطعن فيها ، فروى شريح بن هانئ قال سألت عائشة رضي الله عنها عن المسح على
الخفين فقالت : سل عليا فإنه أعلم بهذا مني كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فسألته فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " للمسافر
ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة " رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه
، وعن خزيمة بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن المسح على
الخفين فقال " للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة " رواه
أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ، وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم : أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة
إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما . رواه الأثرم في سننه وابن خزيمة والدارقطني
قال الخطابي : هو صحيح الإسناد ، وعن صفوان بن عسال قال : أمرنا يعني النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا
سافرنا ويوما وليلة إذا أقمنا ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما
إلا من جنابة .رواه أحمد وابن خزيمة . وقال الخطابي : هو صحيح الإسناد ، فالذي
تقتضيه الصناعة الأصولية هي حمل المطلق على المقيد ونقول :- إن الأحاديث الواردة
في المسح على وجه الإطلاق لا بد وأن تحمل على الأحاديث المقيدة بالتوقيت ، لأن
المتقرر في القواعد أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله
ربنا أعلى وأعلم .
الفرع التاسع
عشر
: قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع فإن
أحدكم إذا قال : ها ضحك منه الشيطان " وقال عليه الصلاة والسلام " إذا
تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب " فأنت ترى أن
الأمر بالكظم في هذه الأحاديث ورد عند التثاؤب على وجه الإطلاق ، ولكنه ورد مقيدا
في بعض الروايات بكونه في الصلاة ، كقوله صلى الله عليه وسلم " إذا تثاءب أحدكم
في الصلاة فليكظم ما ستطاع فإن الشيطان يدخل " فقوله " في الصلاة "
قيد لا بد من إعماله ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" التثاؤب في الصلاة من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع " .
رواه الترمذي وفي أخرى له ولابن ماجه " فليضع يده على فيه " فأَكْثَر
رِوَايَات الصَّحِيحَيْنِ فِيهَا إِطْلَاق التَّثَاؤُب, وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَة
الْأُخْرَى تَقْيِيده بِحَالَةِ الصَّلَاة فَيَحْتَمِل أَنْ يُحْمَل الْمُطْلَق
عَلَى الْمُقَيَّد , وَلِلشَّيْطَانِ غَرَض قَوِيّ فِي التَّشْوِيش عَلَى الْمُصَلِّي
فِي صَلَاته , وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون كَرَاهَته فِي الصَّلَاة أَشَدَّ , وَلَا
يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُكْرَه فِي غَيْر حَالَة الصَّلَاة . وَقَدْ قَالَ
بَعْضهمْ : إِنَّ الْمُطْلَق إِنَّمَا يُحْمَل عَلَى الْمُقَيَّد فِي الْأَمْر لَا
فِي النَّهْي , وَيُؤَيِّد كَرَاهَته مُطْلَقًا كَوْنه مِنْ الشَّيْطَان ,
وَبِذَلِكَ صَرَّحَ النَّوَوِيّ , وقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : يَنْبَغِي كَظْم
التَّثَاؤُب فِي كُلّ حَالَة , وَإِنَّمَا خَصَّ الصَّلَاة لِأَنَّهَا أَوْلَى
الْأَحْوَال بِدَفْعِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُوج عَنْ اِعْتِدَال الْهَيْئَة
وَاعْوِجَاج الْخِلْقَة ، والأحوط للمسلم أن يحرص على الكظم ما استطاع في الصلاة
وفي غيرها ، ولكن الصلاة آكد حالا من غيرها ، والله أعلم .
الفرع الموفي
للعشرين
:- لقد زعم بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى أن قوله تعالى ]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ
خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا [ أنها ناسخة
لقول الله تعالى في سورة الفرقان ] وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ
إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [ وبنوا على هذا
النسخ أن من يقتل المؤمن متعمدا أن لا توبة له ، بل هو متوعد بالوعيد الشديد
الوارد في سورة النساء ، وقال بعضهم :- بل قاتل النفس متعمدا وإن كان قد فعل كبيرة
من الكبائر والجرائم والموبقات الخطيرة ،
إلا أنه لا يعدو أن يكون من الذنوب التي تدخل تحت دائرة التوبة ، والتوبة لا
يتعاظمها ذنب مهما كان, ولا نسخ بين الآيتين ، بل ينظر بينهما بقاعدة المطلق
والمقيد ، ونقول :- إن قوله تعالى ] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ..
الآية [ هذه الآية
مطلقة ، وأما آية سورة الفرقان ، أعني قوله تعالى ]
وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ
لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ
[ هذه الآية
مقيدة بالتوبة ، وحيث كان إحداهما مطلقة والأخرى مقيدة ، فلا بد وأن نجمع بينهما
بقاعدة المطلق والمقيد ، وأما القول بالنسخ فغير مقبول إطلاقا ، لأن المتقرر أن
الجمع بين الأدلة هو الواجب ما أمكن ، والمتقرر أنه لا يقال بالنسخ إلا إن تعذر
الجمع بين الأدلة ، والمتقرر أنه لا يجوز القول بالنسخ لمجرد الاحتمال ، وهنا يمكن
الجمع بين الآيات بأن أحدهما وردت في التعذيب مطلقة ، والأخرى وردت بالتعذيب مقيدة
، وحكمهما واحد وسببهما واحد ، وقد تقرر في القواعد أن المطلق يحمل على المقيد إن
اتفقا في الحكم والسبب وهذا هو الحق في
هذه المسألة ،وهو أن قاتل النفس المؤمنة متعمدا له حق في التوبة ، فإن تاب التوبة
النصوح المستجمعة لشروط قبولها فإن الله تعالى يتوب عليه ، ومهما كان قتل النفس
فيه من الفظاعة والخطورة فلا يمكن أن يكون أكبر جرما ولا أعظم خطر ولا أشد وقعا من
الشرك وقد أخبر الله تعالى أنه يتوب على الكافر إن تاب ، وأنه يغفر له ما قد سلف ،
فإن كانت التوبة قادرة على محو أثر الشرك ، فلأن تكون على محو ما دونه أقدر من باب
أولى ، والأدلة الواردة في أمر التوبة وأنها مكفرة للذنب عامة ومطلقة ، والأصل
بقاء العموم على عمومه ولا يخصص إلا بدليل والأصل بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا
بدليل ، والله أعلم .
الفرع الحادي
والعشرون
: في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعا " متفق عليه ، ولأحمد ومسلم "
طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا أولاهن بالتراب " وعن
عبدالله بن المغفل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا
ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعا وعفروه الثامنة بالتراب " وهذه الأحاديث
تدل على عدة أحكام قد وقع خلاف أهل العلم
رحمهم الله تعالى فيها وسبب الخلاف بينهم
هو الإطلاق والتقييد الوارد في هذه الروايات ، فأقول :- القول الصحيح أنه لا بد من
التراب في غسل ولوغ الكلب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فقال "
أولاهن بالتراب " وقال " وعفروه الثامنة بالتراب " وهذا أمر والأمر
يفيد الوجوب ، وأما ورود الأمر بالغسل مطلقا في بعض الروايات فإنه ليس بشيء ، لأن
المتقرر أنه لا بد من بناء المطلق على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، واختلفوا
كذلك في غسلة التراب متى تكون ؟ والأولى أن يؤخذ بما صحت به الرواية وهي الأولى أو
الثامنة أو الأخرى من السبع أما الأولى والثامنة فهي في صحيح مسلم كما ترى في
المتن وأما الرواية الثالثة وهي التخيير بين الأولى والأخرى فهي عند الشافعي بسند
في غاية الصحة قال في الأم أخبرنا ابن عيينة عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن
سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا
ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن أو أخراهن بتراب " والعبد
مخير في ذلك . أما سائر الروايات فهي إما ضعيفة وإما مروية بالشك وإما مطلقة يجب
حملها على المقيد والله أعلم .
الفرع الثاني
والعشرين
: اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكم مس الذكر باليمين ، والقول الصحيح إن
شاء الله تعالى هو التحريم ، ولكن اختلف المانعون منه ، هل المنع في حالة البول
فقط أو في حالة البول وغيرها ؟ على قولين
، والأصح منها هو أن النهي معلق ومقيد بحال البول فقط وبرهان هذا حديث عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول
ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ولا يتنفس في الإناء " متفق عليه ، فالتحريم في
مس الذكر باليمين مقيد بالبول ، جريا على القاعدة الأصولية ، وهي حمل المطلق على
المقيد ، فالروايات المطلقة الواردة في النهي عن مس الذكر ، محمولة على الروايات
المقيدة الناهية عن مسه حال البول فقط ، والمتقرر عند علماء الشريعة أن المطلق
يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله أعلم .
الفرع الثالث والعشرون : قال النبي
صلى الله عليه وسلم " إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها "
قال في تأسيس الأحكام ( في الحديث دليل على تحريم منع النساء من المساجد إذا
استأذن إليها ووجوب الإذن لهن لكن لوجوب الإذن شروط مستفادة من أحاديث أخر إن
توفرت وجب وإلا فلا ، أحدها :- أن لا تمس طيباً لقوله صلى الله عليه وسلم "
وليخرجن وهن تفلات " أخرجه أبو داود وأحمد من حديث أبي هريرة وله شاهد عند
مسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود مرفوعاً " إذا شهدت احداكن المسجد فلا تمس
طيباً " وذلك أن الطيب سبب الفتنة لأنه يحرك الشهوة ويلتحق به كل ما كان كذلك
كاللباس الفاخر والزينة التي تلفت النظر فإن علة منع الطيب موجودة فيهما ، الثاني
:- أن تخرج متسترة وهذا الشرط مستفاد من الأمر بالحجاب ، الثالث:- أن يكون بالليل
لقوله في بعض روايات هذا الحديث عند مسلم " إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى
المسجد فأذنوا لهن " والقاعدة الأصولية تقضي بحمل المطلق على المقيد فيفيد
وجوب الإذن بالليل دون النهار, الرابع :- الأمن من الفتنة ) ا.هـ . والمقصود منه
هو أن مطلق الإذن الوارد في بعض الروايات مقيد بالليل على ما جاء في الروايات
الأخرى ، لأن السبب واحد والحكم واحد ، والمتقرر أن المطلق يبنى على المقيد إن
اتفقا في الحكم والسبب ، والله أعلم .
الفرع الرابع والعشرون : عن ابن عمر
رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان
وجهه يومئ برأسه وكان ابن عمر يفعله . وفي رواية: كان يوتر على بعيره . ولمسلم :
غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة . وللبخاري " إلا الفرائض " أقول :- لقد
أجمع أهل العلم رحمهم الله تعالى على جواز التطوع بالصلاة على الراحلة في السفر ،
حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم رحمهم الله تعالى ، ولكن اختلفوا في
حكمه في الحضر ، على أقوال ، فقال قوم بأنه جائز ، استدلالا بإطلاق بعض الأدلة في
هذه المسألة ، وقال الأكثر بمنعه ، بل حكاه بعضهم إجماعا ، ولكنه لا يثبت لوجود
المخالف ، والقول بالمنع هو الحق في هذه المسألة, فإن قلت :- وكيف العمل بما ورد
من الأحاديث مطلقا ؟ فأقول :- إن هذه النصوص المطلقة في هذه المسألة قد ورد في
السنة ما يقيدها ، ففي صحيح البخاري «كان ابن عمر يصلي في السفر على راحلته أينما
توجهت يُومِئُ ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله». وله في أخرى
قال «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
يصلِّي في السفر على راحلته حيث توجهت به يُومِئُ إيماء صلاةَ الليل ، إلا الفرائض
، ويوتر على راحلته» وأخرج مسلم أيضا من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر قال كان
النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على دابته وهو مقبلٌ من مكة إلى المدينة حيثما
توجهت به وفيه نزلت ( فأينما تولوا )... فالإطلاق الوارد في بعض أحاديث ابن عمر قد
ورد مقيدا في بعض رواياته الأخرى ، وقد تقرر في الأصول أن المطلق يبنى على المقيد
إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله أعلم.
الفرع الخامس والعشرون :- أقول :-
القول الصحيح هو أن التسليمة الواحدة إنما تكون في النفل خاصة ، وأما في الفرض فلا
بد من التسليمتين ، ولكن اختلف القائلون بالتسليمتين في حكمها هل هي واجبة كلها أم
لا ؟ فقال بوجوب التسليمتين الإمام أحمد رحمه الله بل ذهب في المشهور عنه إلى أن
التسليمتين ركن من أركان الصلاة .وذهب الشافعي رحمه الله إلى وجوب الأولى ، وسنية
الثانية وذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إلى سنيتها . وما ذهب إليه الإمام أحمد
هو الأرجح ؛ لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها ولقوله " صلوا كما
رأيتموني أصلي " وما ورد من إطلاق في بعض الأحاديث ، فهو محمول على المقيد .
والله أعلم .
الفرع السادس والعشرون :- قال
البخاري في صحيحه :- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ
حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا
مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ شَيْءٌ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَمْنَعْهُ فَإِنْ
أَبَى فَلْيَمْنَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَليُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ
شَيْطَانٌ" فأنت ترى بارك الله تعالى فيك أن هذه الرواية مطلقة ، فأوجب النبي
صلى الله عليه وسلم مدافعة المار بين يدي المصلي وأطلق ، ولم يقيد المدافعة بما
إذا صلى إلى سترة ، ولكن هذا الإطلاق ورد ما يقيده في الرواية ألأخرى ، وهي قوله
صلى الله عليه وسلم "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحدٌ أن
يجتاز بين يديه ، فليدفعه ، فإن أبى فليقاتله ، فإنما هو شيطان " فيؤخذ من
قوله " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه
فليدفعه ..." يؤخذ منه أن الدفع لا يجوز إلا إذا صلى إلى سترة معتبرة شرعاً ،
والمطلق محمول على المقيد فمن صلى إلى غير سترة ، فإنه متساهل بصلاته ، فلا حق له أن
يدافع أحدا ولا أن يؤذي أحدا ولكنه إن صلى
إلى سترة وأراد أحد أن يمر بين يديه وبين سترته فلا يمكنه من ذلك ، بل عليه أن
يدافع ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، فما ورد من الروايات مطلقا فإنه لا بد وأن يحمل
على المقيد لأن المتقرر أن المطلق يبنى
على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله أعلم .
الفرع السابع والعشرون : قال البخاري
رحمه الله تعالى في الصحيح :- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :- بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ "مَا لَكَ " قَالَ وَقَعْتُ عَلَى
امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا" قَالَ لَا قَالَ
"فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" قَالَ
لَا فَقَالَ "فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا" قَالَ لَا
قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ
عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ
فِيهَا تَمْرٌ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ قَالَ "أَيْنَ السَّائِلُ "
فَقَالَ أَنَا قَالَ "خُذْ هَذا فَتَصَدَّقْ بِهِ" فَقَالَ الرَّجُلُ
أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا
يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ
قَالَ "أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ " أقول :- الظاهر من قول الرسول صلى الله
عليه وسلم "هل تجد رقبة تعتقها" ؟ قال لا قال "فهل تستطيع أن تصوم
شهرين متتابعين" ؟ قال لا قال فهل "تجد إطعام ستين مسكيناً "؟ قال
لا ، الظاهر أن هذا الترتيب واجب وأنه لا يجوز الانتقال من الأمر الأول إلى الثاني
إلا بعد العجز عن الأول وهذا أي القول بالترتيب هو مذهب الشافعي وأحمد وجمهور
الفقهاء وذهب مالك إلى أن هذه الخصال على التخيير لا على الترتيب وهذه مخالفة للنص
قال ابن العربي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نقله من أمر بعد عدمه إلى أمر آخر
وليس هذا شأن التخيير وللاختلاف في ذلك دليل آخر وهي الرواية قد وردت بالتخيير
وبعدمه فرجح القائلون بالترتيب روايته لأن الرواية به أكثر فإن الذين رووا الترتيب
عن الزهري ثلاثون نفساً قلت : وإذا كانت قد وردت رواية مطلقة فهي تحمل على المقيدة
وذلك تمشياً على قول الجمهور القائلين بحمل المطلق على المقيد وهذا هو الحق إن شاء
الله .قاله في تأسيس الأحكام والله أعلم .
الفرع الثامن والعشرون : القول
الصحيح أن الصلاة المعادة لا تكون إعادته مشروعة إلا في الجماعات التي تقام في
المساجد خاصة ، وأما إعادتها في غيرها فلا نرى أنها مشروعة ، والدليل على ذلك حديث
يزيد بن الأسود وفيه " إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل
فصليا معه فإنها لكما نافلة " وفي رواية " ثم أدركتما مسجد جماعة "
قال المباركفوري رحمه الله تعالى في التحفة على شرح الترمذي (وظاهر التقييد بقوله
صلى الله عليه و سلم "ثم أتيتما مسجد جماعة" أن ذلك مختص بالجماعات التي
تقام في المساجد لا التي تقام في غيرها فيحمل المطلق من ألفاظ الحديث على المقيد
بمسجد الجماعة قاله الشوكاني ) رحم الله أهل العلم رحمة واسعة ، لقد كانوا يهتمون
بدقائق الألفاظ النبوية ويمحصونها تمحيصا لا مزيد عليه ، من باب كمال النصح للأمة
وبيان الحق والشفقة في التوجيه ، رحمهم
الله تعالى الرحمة الواسعة ،وأجزل لهم الأجر والمثوبة ، والله أعلم .
الفرع التاسع والعشرون : في حديث
عائشة رضي الله عنها في بيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت "
وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى " وبناء على ذلك ذهب بعض أهل العلم رحمهم
الله تعالى إلى أن السنة هي الافتراش في كلا التشهدين ، أعني في الصلاة التي لها
تشهدان ، بينما ذهب بعض أهل العلم رحمهم
الله تعالى إلى أن السنة في التشهد الثاني في الصلاة التي لها تشهدان إنما هو
التورك ، وأما الافتراش فإنه من السنن في الجلوس للتشهد الأول خاصة ، أو للجلوس في
الصلاة التي ليس لها إلا تشهد واحد ، وأما الصلاة التي لها تشهدان فإن السنة في
الجلوس في التشهد الثاني إنما هو التورك ، وهذا هو الحق في هذه المسألة ، وأما ما
ورد في الأحاديث في صفة الجلوي للتشهد أنه على الافتراش فإنها روايات مطلقة ، وقد
ورد ما يقيدها ، قال البخاري رحمه الله تعالى في الصحيح الذي هو أصح الكتب بعد
كتاب الله تعالى :- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ
عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ وَحَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ وَيَزِيدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَلْحَلَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ
نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا
صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ
السَّاعِدِيُّ :- أَنَا كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ لِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُهُ إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ
وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ
فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ فَإِذَا
سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا وَاسْتَقْبَلَ
بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ
جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى وَإِذَا جَلَسَ فِي
الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْأُخْرَى وَقَعَدَ
عَلَى مَقْعَدَتِهِ... قال المباركفوري في التحفة على حديث عائشة (والحديث قد احتج
به القائلون باستحباب الافتراش في التشهدين وأجيب بأن هذا الحديث مطلق وحديث أبي
حميد الآتي مقيد فيحمل المطلق على المقيد ) قلت :- وهو كما قال رحمه الله تعالى
ورحم عامة علماء المسلمين والله أعلم .
الفرع الموفي للثلاثين :- عَنْ
عَبْدِ الله بنِ مَالِكٍ "ابن بُحَينةَ" رضيَ الله عَنْه أنَ النَّبيَّ
صلى الله عليه وسلم كانَ إِذَا صَلى فرج بَيْنَ يَدَيهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ
إبْطَيْهِ ... قال الشيخ البسام رحمه الله تعالى في تيسير العلام وهو من أنفع
الكتب للمبتدئين في شروح الحديث ( فيه دليل على استحباب هذه الهيئة في السجود، وهى
مباعدة عضديه عن جنبيه، وقد تخصص ذلك في السجود بما أخرجه مسلم في حديث البراء
يرفعه وهو " إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك وهو في حديث الباب مطلق ولكنه
في هذا الحديث مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، ويختص التفريج بحال السجود) قلت :-
وهو كما قال رحمه الله تعالى وأجزل له الأجر والمثوبة ،وجعل قبره روضة من رياض
الجنة ، والله أعلم .
الفرع الحادي والثلاثون : عن أنس قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ
كأن رأسه زبيبة " ... وعن أم الحصين الأحمسية رضي الله عنها قالت : حَجَجْتُ
مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الودَاعِ ، فَرأيتُهُ حِينَ رَمَى
جَمْرَةَ العَقَبَةِ وانصَرَفَ وهو على
راحِلَتِهِ ، ومعه بلالٌ وأُسَامَةُ : أَحَدُهُما يقودُ بِهِ رَاحِلَتَهُ ،
والآخرُ رافعٌ ثَوبَهُ على رأسِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يُظِلُّهُ من
الشمس، قالت: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قَولا كثيرا لم أفْهمهُ ، ثُمَّ
سَمِعتُهُ يقولُ «إِنْ أُمِّرَ عليكم عَبْدٌ مُجَدَّعٌ - حَسِبْتها قالت : أسودُ -
يَقُودُكمْ بِكِتابِ اللهِ فَاسمعوا لَهُ وَأَطِيعوا» وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم «مَنْ أطاعني فقد أطاعَ الله ومَنْ عصاني فقد عَصى اللهَ ، ومَنْ يُطعِ
الأمِيرَ فَقَدْ أطَاعَني ، ومَنْ يَعصِ الأمِيرَ فَقد عَصَانِي» ... وعن وائل بن
حُجر رضي الله عنه قال : سَألَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدٍ الجُعفيُّ رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم قال : يا نَبيَّ اللهِ ، أرَأيتَ إنْ قَامَتْ علينا أُمرَاءُ
يَسألُونَا حَقَّهم ، ويَمنعونَا حَقَّنا، فما تَأْمُرنا ؟ فأعْرَضَ عنه ، ثم سأله
، فَأعرَضَ عَنْه ، ثم سأله في الثانية - أو في الثَّالِثَةِ - فَجَذَبَهُ
الأشعَثُ بنُ قَيسٍ فقال «اسْمعوا
وأطِيعُوا ، فإنَّما عليهم مَا حُمِّلُوا ، وعليكم ما حُمِّلْتُم» والأحاديث في
هذا المعنى كثيرة ، وكلها تأمر بطاعة ولي الأمر ، ولكن هذه الأحاديث مطلقة ، وليس
على إطلاقها ، بل قد ورد في السنة ما يقيدها بأن الطاعة إنما تكون في المعروف فقط
، وأما إن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال «على المرء المسلم السَّمعُ والطاعَةُ فيما
أحَبَّ أو كَرِهَ ، إِلا أَنْ يُؤمَرَ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِن أُمِرَ بِمعصيةٍ، فلا
سَمْعَ ، ولا طَاعَةَ» وعن أبي عبد الرحمن السلمي أيضاً عن علي قال بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم سرية ً فاستعمل عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له
ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال اجمعوا لي حطباً فجمعوا له ثم قال أوقدوا ناراً
فأوقدوا ثم قال ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا قالوا
بلى قال فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً " وقال
"لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله إنما الطاعة في المعروف " وهذا الحمل
للطلق على المقيد لا بد منه ، لأنه يبين وسطية أهل السنة والجماعة رحمهم الله
تعالى بين من ارتمى في أحضان الولاة فقبل منهم الحق والباطل, وأطاعهم بيديه ورجليه
في كل أمر من غير تمحيص بين كونه من الحق أو الباطل ، وبين قوم ما رأوا للولاة
أصلا أي طاعة ، ولا لهم الحق في السمع ، فجاء أهل السنة والجماعة بهذه الوسطية
التي لا تقوم مصالح الدنيا والدين إلا بها ، وهي أن الأصل وجوب السمع والطاعة ،
إلا في حال ما أمر الولاة بمعصية ، فإن أمروا بمعصية فلا سمع ولا طاعة ، والله
أعلم .
الفرع الثاني
والثلاثون
: أقول :- لقد أجمع أهل العلم رحمهم الله تعالى على حرمة الأكل والشرب في آنية
الذهب والفضة على الذكور والإناث ، فعن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه
و سلم يقول " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة
ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " ...وعن أم سلمة
رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن الذي يشرب في آنية
الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم قال في الذي يشرب في إناء فضة " كأنما يجرجر في بطنه
نارا "
وعن البراء بن عازب قال "نهانا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرب في الفضة فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب
فيها في الآخرة " والأدلة واضحة في تقرير هذا الإجماع ولله الحمد والمنة ، ،
ولكن :- هل يحرم استعمالهما في غير الأكل والشرب ؟ فيه خلاف ، والأقرب أنه لا يحرم
وذلك لعدة أمر , الأول :- أن المتقرر في القواعد وجوب حصر قصر الدليل على
مورده فلا يزاد فيه ولا ينقص منه ،
والدليل إنما خص الأكل والشرب فأين الدليل المقتضي لدخول غيرهما معهما ؟ ، الثاني
:- أن المتقرر في القواعد أن ما ورد مقيدا فإنه لا يجوز إطلاقه إلا بدليل ، فكما
أن المطلق لا يجوز تقييده إلا بدليل فكذلك المقيد لا يجوز إطلاقه إلا بدليل وأين الدليل الدال على إطلاق القيد في غير الأكل
والشرب ؟ الثالث :- أن المتقرر في القواعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي
جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا ، فلا يفصل في موضع الإجمال ولا يجمل في
موضع التفصيل ، فلو أنه كان يريد غيرها من سائر الاستعمالات ولكان قال " لا
تستعملوا " لكنه فصل في النهي تفصيلا لا مزيد عليه ، وخصص كل واحدة من هذه المنهيات بنهي خاص
فقال " لا تشربوا ولا تأكلوا " ولم يقل" لا تأكلوا وتشربوا "
فأفاد ذلك أنه نهي عن هذا الشيء بخصوصه ، الرابع :- أن المتقرر في القواعد أن
القيد الأغلبي خلاف الأصل ، فالأصل أن القيد المذكور في النص مقصود لذاته ، فإذا
أدخلنا غير الأكل والشرب في المنهي عنه بناء على هذا الدليل فقد ألغينا هذا القيد
، وجعلناه أغلبيا ، وهذا خلاف الأصل ، وقد تقرر أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى
يرد الناقل ، فأين الدليل الدال على أن هذا القيد أغلبي ؟ فإن قلت :- الإجماع
فأقول :- إن الإجماع إنما صح في تحريم الأكل والشرب فيهما فقط ، وأما في النهي عن
سائر الاستعمالات فلم يصح فيه إجماع ، ودعوى النووي الإجماع على تحريم استعمالهما
في كل شيء دعوى غير مسموعة ، لثبوت الخلاف ، الخامس :- أن المتقرر في القواعد أن
الأصل جواز استعمال الآنية في كل الاستعمالات إلا ما خصه الدليل ، والدليل إنما
أخرج الأكل والشرب فيهما ، فأين الدليل الدال على عموم هذا النهي ؟ هذا ما لا وجود
له ، السادس :- أن المتقرر في القواعد أن الأصل في الأشياء الحل والإباحة ،
واستعمالهما في غير الأكل والشرب شيء من الأشياء وفعل من الأفعال ، فأين الدال على
حرمته فإن النص إنما رود في تحريم الأكل والشرب فيهما فقط ، السابع:- أن المتقرر
في القواعد أن تقسير الصحابي مقدم على غيره ما لم يخالف ظاهر النص ، وقد روى
البخاري عن عثمان بن عبدالله بن موهب أنه بعثه أهله إلى أم سلمة قال :- فجاءت
بجلجل من فضة فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا أصاب الإنسان
عين أو شيء بعث إليها بإناء فخضخضت له فشرب منه ، فاطلعت في الجلجل فإذا فيه شعرات
جمرا " وهي راوية حديث النهي في قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذي
يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " فلوا أنها فهمت عموم النهي
لكل استعمال لما فعلت ذلك ، لأنها بهذا الفعل توصف بأنها قد استعملت إناء الفضة ،
فلما استعملته بهذا الاستعمال ، دل ذلك على أنها كانت تفهم قصر النهي على الأكل
والشرب فقط ، وكذلك حذيفة رضي الله عنه فإنه من رواة النهي كما هو معلوم ومع ذلك فقد كان عنده إناء من ذهب كما في الصحيح
أنه أمر غلامه أن يسقيه الماء فجاء بالماء في إناء ذهب فرماه به ، ثم روى حديثه
المتقدم فلو أن حذيفة رضي الله عنه كان يفهم من حديثه عموم النهي في سائر
الاستعمالات فلماذا اتخذ هذا الإناء في بيته ، ولماذا كان يبقيه على شكل إناء,
وكان كسره حتى لا يتخذه على هيئة الاستعمال ، أليس كذلك ؟ نعم هو كذلك ، وأنا أعلم
أن هذا الكلام فيه شيء من الصعوبة على من كان متقررا في قلبه عموم التحريم بناء
على أن هذا مذهب إمامه وأنه اختيار ابن تيمية وابن القيم ، ولكن الحق الذي أراه
حسب القواعد والدليل هو أن النهي محصور في الأكل والشرب فقط ، الثامن :- أن
المتقرر في القواعد أن الجزاء من جنس العمل ، وفي الحديث " من يشرب في إناء
ذهب وفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم " فانظر كيف المناسبة بين الفعل
والعقوبة ، فلما شرب في الإناء المنهي عنه عوقب بأن يشرب يوم القيامة النار
ويجرجرها في جوفه ، والجرجرة عبارة عن صوت نزول الماء في الحلق ، وهذا التعليل
المتسق مع الفعل دليل على أنه لا يريد إلا حقيقة الأكل والشرب ، فكيف ندخل معها
غيرها من سائر أنواع الاستعمال ؟ وهل نقول لمن استخدمها كزينة :- فإنما يجرجر في
بطنه نار جهنم ؟ وهل نقول لمن توضأ فيها أو حفظ فيها المتاع :- إنما يجرجر في بطنه
نار جهنم ؟ هل يعقل هذا ؟ فلما رتب على الفعل المنهي عنه عقوبة مناسبة له علمنا
أنه لا يريد إلا هو ، ولا يريد غيره ، التاسع :- أن حل سائر الاستعمالات حل متيقن
، وتحريمها بهذه الأدلة الناهية عن الأكل والشرب فقط يوجب عندنا الشك وقد تقرر أنه لا ينقض الأمر المتيقن ثبوتا أو
نفيا بشك عارض ، فما كان أصله الحل وشككت
في حرمته فهو على أصل الحل حتى يرد اليقين في حرمته ، وما كان أصله التحريم وشككت
في حله فهو محرم حتى يرد اليقين في حله ، فالراجح إن شاء الله تعالى هو قصر النهي
عن الأكل ولشرب فقط ، والله ربنا أعلى وأعلم .
الفرع الثالث
والثلاثون
: الحق الحقيق بالقبول هو أن صلاة الجماعة فرض عين على كل مكلف قادر ، والأدلة
عليها كثيرة ، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم «أثقلُ صلاة على المنافقين :
صلاةُ العِشاء ، وصلاةُ الفجرِ ، ولو يعْلَمُونَ ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوا ،
ولقد همَمْتُ أن آمرَ بالصلاة فتقامَ ، ثم آمرَ رجلا فيصلِّي بالناس ، ثم أنطلقَ
معي برجال معهم حُزَم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، فأُحرِّق عليهم بيوتَهم
بالنَّار» وفي رواية نحوه ، وقال في آخره «فأحرِّق على من لا يخرج إلى الصلاة
يَقدِرُ» أخرجه البخاري ومسلم ، وأخرج البخاري أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
قال «والذي نفسي بيده ، لقد هممتُ أن آمرَ يحَطَب فيُحْطبَ ، ثم آمرَ بالصلاة
فيُؤذَّنَ لها ، ثم آمرَ رجلا فيؤمَّ الناس ، ثم أُخالِف إلى رجال ، فأحرِّقَ
عليهم بُيوتَهم ، والذي نفسي بيده لو يعلم
أحدُهم أنه يجد عرقا سَمينا ، أو مَرْماتيْنِ حَسنَتَيْنِ لشهدَ العشاءَ» وفي أخرى
له ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال «لقد هممْتُ أن آمرَ بالصلاة فتقامَ ،
أُخالفَ إلى منازلِ قوم لا يشهدون الصلاة فأُحرِّقَ عليهم» وأخرجه مسلم أن رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم فقدَ ناسا في بعض الصلوات ، فقال «لقد هممتُ أن آمر رجلا
يصلي بالناس ، ثم أخالفَ إلى رجال يتخلَّفون عنها فآمرَ بهم فيُحرِّقوا عليهم بحزمِ الحطب ،
بُيوتهم ، ولو علم أحدُهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها - يعني صلاةَ العشاء- » وقال وله
في أخرى قال «لقد هممتُ أن آمُرَ فِتياني أن يستعدُّوا لي بحزمٍ من حطب، ثم آمرَ
رجلا يصلي بالناس ثم تُحرّقَ بيوت على من فيها» وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال
«لقد رأيتُنا وما يتخلَّف عن الصلاة إلا منافق قد عُلِمَ نفاقُه ، أو مريض ، إن
كان المريضُ لَيَمشي بين رَجُليْنِ حتى يأتي الصلاةَ ، وقال : إن رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم علَّمنَا سُنَنَ الهُدَى
وإن من سنن الهُدَى : الصلاة في المسجد الذي يؤذَّن فيه» أخرجه مسلم.وقد
أمر الله تعالى بصلاة الجماعة في حال الخوف فكيف بها حال الأمن ؟ لا جرم أنها آكد
، والقول الصحيح أنها فرض عين على كل مكلف قادر ، ولكن هذا الوجوب لا بد وأن يقيد
بمن يسمع النداء لها ، فعن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجل أعمى ، فقال : يا رسولَ الله
، إنه ليس لي قائد يقودُني إلى المسجد ، فسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن
يُرَخِّصَ له ؟ فرَّخص له فلما وَلَّى
دعاه ، فقال «هل تسمع النداء بالصلاة ؟ قال : نعم ، قال فأجِبْ» أخرجه مسلم, فلما
سأله النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال ، ثم فرع على الإجابة أن أوجب عليه
الحضور لصلاة الجماعة علمنا أن الأحاديث المطلقة الواردة في وجوب صلاة الجماعة لا
بد وأن تحمل على هذا القيد الوارد في هذا الحديث ، لأن المتقرر في القواعد أن
المطلق لا بد وأن يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، قال الأمير الصنعاني
رحمه الله تعالى في سبل السلام (لكن ينبغي أن يقيد الوجوب عيناً على سامع النداء
لتقييد حديث الأعمى وحديث ابن عباس له، وما أطلق من الأحاديث يحمل على المقيد) قلت
:- وهو ما تقتضيه الصناعة الأصولية ، وقد سئل الشيخ عبدالعزيز ين باز رحمه الله
تعالى بما نصه ، قال السائل :- أسكن في بيت بعيد عن المسجد وأضطر لاستخدام السيارة
للذهاب إلى الصلاة ، وإذا مشيت على قدمي أحيانا تفوتني الصلاة ، مع العلم أنني
أسمع الأذان عبر مكبرات الصوت ، فهل علي حرج إذا صليت في البيت أو صليت مع ثلاثة
أو أربعة من الجيران في منزل أحدنا ؟ أفيدوني جزاكم الله خيرا ؟ فأجاب رحمه الله
تعالى بقوله (الواجب عليك أن تصلي مع إخوانك المسلمين في المسجد إذا كنت تسمع
النداء في محلك بالصوت المعتاد بدون مكبر عند هدوء الأصوات وعدم وجود ما يمنع
السمع . فإن كنت بعيدا لا تسمع صوت النداء بغير مكبر جاز لك أن تصلي في بيتك أو مع
بعض جيرانك ؛ لما « ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للأعمى لما استأذنه
أن يصلي في بيته : هل تسمع النداء بالصلاة ؟ قال نعم قال فأجب » رواه الإمام مسلم
في صحيحه .ولقوله صلى الله عليه وسلم « من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من
عذر » خرجه ابن ماجه والدارقطني وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح ومتى أجبت المؤذن ولو كنت بعيدا وتجشمت المشقة
على قدميك أو في السيارة فهو خير لك وأفضل والله يكتب لك آثارك ذاهبا إلى المسجد
وراجعا منه مع الإخلاص والنية ، لما ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل كان بعيدا عن المسجد النبوي وكانت لا
تفوته صلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : لو اشتريت حمارا تركبه في
الرمضاء وفي الليلة الظلماء ؟ فقال رضي الله عنه : ما أحب أن يكون بيتي بقرب
المسجد إني أحب أن يكتب لي
ممشاي إلى المسجد ورجوعي إلى أهلي فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم « إن الله قد جمع لك ذلك كله » خرجه الإمام مسلم في صحيحه ) ا.هـ.
كلامه رحمه الله تعالى ، وهو مفرع على قاعدة :- بناء المطلق على المقيد فما ورد
مطلقا في إيجاب صلاة الجماعة فإنه يقيد بحديث " هل تسمع النداء بالصلاة
" وقد قرر الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى أن هذا السماع إنما هو السماع
المعروف في العهد الأول ولا يدخل فيه
الاستماع من مكبرات الصوت ، والله أعلم .
الفرع الرابع
والثلاثون
: لقد وردت أحاديث في تحديد ليلة القدر بأنها في العشر الأواخر ، فعن عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ،
وَيَقُولُ "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ
رَمَضَانَ " وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
قال «أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدرِ ، ثم أيْقَظَنِي بعضُ أهلي فَنُسِّيتُها ،
فَالْتَمِسوها في العَشْرِ الغَوابِرِ» يعني الأواخر ، فهذه الأحاديث تثبت أن ليلة
القدر في العشر الأواخر من رمضان ، ولكن أنت تعلم بارك الله تعالى فيك أن العشر
الأواخر أعدادها تكون شفعا وتكون وترا ، فجاءت روايات أخرى تقيد هذا الإطلاق ولله
الحمد والمنة وتفيد أنها أرجى ما تكون في الأوتار من العشر الأواخر من رمضان ، فعن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم
أُرُوا ليلة القَدْرِ في المنام ، في السَّبْعِ الأواخِرِ ، فقال النبيُّ صلى الله
عليه وسلم « أرى رُؤياكم تَوَاطَأتْ في السَّبْعِ الأواخِرِ ، فمن كان
مُتَحَرِّيها فَلْيَتَحَرَّها في السَّبع الأواخر » وفي رواية قال : رأى رجل أن
ليلة القدر ، ليلة سبع وعشرين ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم «أرى رؤياكم في
العَشْرِ الأوَاخِرِ، فاطْلُبُوها في الوتر» وفي الصحيح عن عائشة "تحروا ليلة
القدر في وتر العشر الأواخر من رمضان " فلا بد من القول بحمل المطلق على
المقيد هنا ، لأن المتقرر عند العلماء رحمهم الله تعالى أن المطلق يبنى على المقيد
إن اتفقا في الحكم والسبب ، قال الزرقاني رحمه الله تعالى في شرح حديث عائشة رضي
الله عنها في قولها " في العشر الأواخر " قال ( ولم يقع في شيء من طرق
حديث هشام هذا التقييد بالوتر ولكنه محمول عليه لأن في الصحيح من رواية أبي سهيل
بن مالك عن أبيه عن عائشة مرفوعا تحروا ليلة القدر في وتر العشر الأواخر من رمضان
فيحمل المطلق على المقيد ) والله أعلم .
الفرع الخامس
والثلاثون
: قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه :- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ قَالَ
حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ
فَقَالَ "هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا" قَالُوا إِنَّهَا
مَيِّتَةٌ قَالَ "إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا" والشاهد منه هنا هو أن
النبي صلى الله عليه دلهم على الانتفاع بجلد الشاة الميتة ، ولم يتعرض للدباغ بحال
، وهذه الرواية مطلقة عن ذكر الدباغ ، وقد أخذ بها بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى
وأجزل الله تعالى لهم الأجر والمثوبة فأجازوا الانتفاع بجلد الميتة بلا دباغ ، ولكنه
مذهب مرجوح ، بل الحق أنه لا يجوز الانتفاع بجلد الميتة إلا بعد الدبغ ، والأدلة
في الدباغ كثيرة جدا ، ولكن الذي يخصنا هنا هو عين هذا الحديث فإنه قد ورد في رواية البخاري بلا ذكر للدباغ ،
ورواه النسائي - فيما أظن - كذلك أيضا من غير ذكر الدباغ ، ولكن قد رواه غيرهما من
أهل الحديث وذكروا فيه الدباغ ، قال مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه :- حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَمْرٌو النَّاقِدُ
وَابْنُ أَبِي عُمَرَ جَمِيعًا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ يَحْيَى أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :- تُصُدِّقَ عَلَى مَوْلَاةٍ لِمَيْمُونَةَ
بِشَاةٍ فَمَاتَتْ فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ "هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ
فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ " فَقَالُوا إِنَّهَا مَيْتَةٌ فَقَالَ "إِنَّمَا
حَرُمَ أَكْلُهَا" فقوله "فدبغتموه" هذا قيد لا بد وأن تحمل عليه
رواية البخاري والنسائي رحمهما الله تعالى ، لأن روايتهما مطلقة ، وهذه الرواية
مقيدة ، والمتقرر في القواعد أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب
، وأما الأدلة الأخرى المفيدة بأن الدباغ مطهر لجلد الميتة فهي كثيرة كما ذكرت لك ولكن بحثنا في هذين الحديثين فقط ، والله أعلم .
الفرع السادس
والثلاثون
: أقول :- اتفق أهل العلم رحمهم الله تعالى على أن المحرم أو من كان في الحرم إن
قتل الصيد متعمدا ذاكرا إحرامه فإن عليه الجزاء المقرر في قوله تعالى ] وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء
مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ... الآية [
ولكن اختلفوا فيمن قتل الصيد وهو ناس أنه محرم على أقوال :- فقال بعضهم بوجوب الجزاء عليه ،
ولا عبرة بكونه ناس أو جاهلا ، وقال بعضهم لا ، لا كفارة عليه ما دام قتله وهو ناس ، وفي
هذه المسألة يقول الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه العظيم الرائع أضواء
البيان ( أما وجوب الجزاء عليهما - أي قاتل الصيد مخطئا أو ناسيا- فاختلف فيه العلماء.فذهب جماعة من العلماء:
منهم المالكية، والحنفية، والشافعية، إلى وجوب الجزاء، في الخطأ، والنسيان، لدلالة
الأدلة. على أن غرم المتلفات لا فرق فيه بين العامد، وبين غيره وقالوا: لا مفهوم
مخالفة لقوله متعمداً لأنه جري على الغالب، إذ الغالب ألا يقتل المحرم الصيد إلا
عامداً، وجرى النص على الغالب من موانع اعتبار دليل خطابه، أعني مفهوم مخالفته،
وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود" في موانع اعتبار مفهوم
المخالفة:
أو
جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
ولذا لم يعتبر
جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى ]
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [
لجريه على الغالب، وقال بعض من قال بهذا القول، كالزهري: وجب الجزاء في العمد
بالقرآن العظيم، وفي الخطأ والنسيان بالسنة، قال ابن العربي: إن كان يريد بالسنة
الآثار التي وردت عن ابن عباس، وعمر فنعما هي، وما أحسنها أسوة.واحتج أهل هذا
القول. بأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال "هي صيد" وجعل فيها
إذا أصابها المحرم كبشاً، ولم يقل عمداً ولا خطأ، فدل على العموم وقال ابن بكير من
علماء المالكية: قوله سبحانه {مُتَعَمِّداً} لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وذكر
التعمد لبيان أن الصيد ليس كابن آدم الذي ليس في قتله عمداً كفارة.وقال القرطبي في
تفسيره: إن هذا القول بوجوب الجزاء على المخطىء، والناسي والعامد، قاله ابن عباس،
وروي عن عمر وطاوس، والحسن، وإبراهيم، والزهري، وبه قال مالك، والشافعي، وأبو
حنيفة، وأصحابهم.وذهب بعض العلماء إلى أن الناسي، والمخطىء لا جزاء عليهما، وبه
قال القرطبي، وأحمد بن حنبل، في إحدى الروايتين، وسعيد بن جبير، وأبو ثور، وهو مذهب
داود، وروي أيضاً عن ابن عباس وطاوس، كما نقله عنهم القرطبي. واحتج أهل هذا القول
بأمرين,
الأول:- مفهوم
قوله تعالى ]وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً[ الآية، فإنه يدل على أن غير المتعمد ليس كذلك.الثاني: أن الأصل
براءة الذمة، فمن ادعى شغلها، فعليه الدليل. قال مقيده: عفا الله عنه: هذا القول
قوي جداً من جهة النظر، والدليل) قلت :- وهو القول الراجح إن شاء الله تعالى ، لأن
الأدلة الواردة في وجوب الكفارة على من قتل الصيد وردت مطلقة ، وأما قوله تعالى
" متعمدا " فإنه قيد فيها ، وقد تقرر في القواعد أن المطلق يبنى على
المقيد إن اتفقا في الحكم ، ولا يمكن هذا إلا إن قلنا :- بأنه لا جزاء ولا كفارة
في قتل الصيد إلا في حال التعمد دون حالة الخطأ والنسيان ، ولأن المتقرر أن إعمال
الكلام أولى من لإهماله ، والمتقرر أن فعل المنهي عنه لا يؤثر إلا بذكر وعلم
وإرادة ، والمتقرر أن المطلق يبنى على المقيد ، والله أعلم .
الفرع السابع
والثلاثون
: قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم ]
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [
وقال تعالى ] قاتلوا الذي لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... الآية [ فكيف نجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم " اتركوا
الترك ما تركوكم " وقال صلى الله عليه وسلم "اتركوا الحبشة ما تركوكم ؛
فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة" وذكره الألباني في
السلسلة الصحيحة ؟ أقول :- قال في عون المعبود ( إن الجمع بين قوله تعالى "قاتلوا
المشركين كافة" وبين هذا الحديث أن الآية مطلقة والحديث مقيد فيحمل المطلق
على المقيد ويجعل الحديث مخصصا لعموم الآية كما خص ذلك في حق المجوس فإنهم كفرة
ومع ذلك أخذ منهم الجزية لقوله صلى الله عليه و سلم "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"
قال الطيبي رحمه الله ويحتمل أن تكون الآية ناسخة للحديث لضعف الإسلام ، وأما
تخصيص الحبشة والترك بالترك والودع فلأن بلاد الحبشة وغيره بين المسلمين وبينهم
مهامه وقفار فلم يكلف المسلمين دخول ديارهم لكثرة التعب وعظمة المشقة وأما الترك
فبأسهم شديد وبلادهم باردة والعرب وهم جند الإسلام كانوا من البلاد الحارة فلم
يكلفهم دخول البلاد فلهذين السرين خصصهم وأما إذا دخلوا بلاد المسلمين قهرا
والعياذ بالله فلا يحوز لأحد ترك القتال لأن الجهاد في هذه الحالة فرض عين وفي
الأولى فرض كفاية ذكره القارئ ، وقال وقد أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى هذا المعنى
حيث قال ما تركوكم ) أقول:- وهذا الفرع أظن أنه ألصق بقاعدة العموم والخصوص لا
بقاعدة الإطلاق والتقييد ، والله أعلم .
الفرع الثامن
والثلاثون
: قال البخاري رحمه الله تعالى في باب فضل التأمين :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "قَالَ إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ
فِي السَّمَاءِ آمِينَ فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " فهل هذا الفضل في التأمين على القراءة في الصلاة ،
أم هو مطلق في الصلاة وغيرها ؟ أقول :- فيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى ،
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه الكبير المفضال فتح الباري ( ويؤخذ
منه مشروعية التأمين لكل من قرأ الفاتحة سواء كان داخل الصلاة أو خارجها لقوله "إذا
قال أحدكم" لكن في رواية مسلم من هذا الوجه "إذا قال أحدكم في
صلاته" فيحمل المطلق على المقيد ، نعم ، في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد
وساق مسلم إسنادها " إذا أمن القارئ فأمنوا " فهذا يمكن حمله على
الإطلاق فيستحب التأمين إذا أمن القارئ مطلقا لكل من سمعه من مصل أو غيره ويمكن أن
يقال المراد بالقارئ الإمام إذا قرأ الفاتحة فإن الحديث واحد اختلفت ألفاظه ) قلت
:- والظاهر هو ما مال إليه الحافظ رحمه الله تعالى من أن هذا الفضل الكبير مقيد
بالتأمين الذي يكون في الصلاة خاصة ، لأن الحديث وإن ورد في رواية البخاري
بالإطلاق ، إلا أنه قد ورد في رواية مسلم بالتقييد ، والمتقرر عند أهل العلم رحمهم
الله تعالى أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله أعلم .
الفرع التاسع
والثلاثون
: في حديث المجامع في رمضان ورد بلفظ «أن رجلا أفطر في رمضانَ فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُعْتِقَ
رقبة ، أو يصومَ شهرين متتابعين ، أو يُطْعِمَ ستين مسكينا». أخرجه البخاري،
ومسلم.
وفي
رواية الموطأ قال «إِن رجلا أفطر في رمضانَ ، فأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
: أن يُكفِّر بِعتقِ رَقَبَة ، أو صيامِ شهرين متتابعين ، أو إِطعام ستين مسكينا ،
فقال : لا أجدُه، فأُتِيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعَرَق تمر ، فقال : خُذْ
هذا فتصدَّقْ به ، فقال : يا رسول الله ، ما أجدُ أحدا أحوَجَ مني ، فضحك رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ أنيابه ، قال : كُلْه» فأنت ترى هنا أن النبي
صلى الله عليه وسلم أوجب عليه الكفارة ، والعلة في ذلك ما ذكر في أول الحديث من
قوله " أن رجلا أفطر في رمضان " والفطر هنا غير محدد ، فأخذ به بعض أهل
العلم رحمهم الله تعالى فقالوا :- كل من أفسد صومه متعمدا بلا عذر فإن عليه
الكفارة ، ولم يقيدوا ذلك بالجماع ، بل تجاوزا منه إلى كل من أفسد الصوم متعمدا بأي مفسد كان ، ولكن هذا المذهب مرجوح ،
لأن قوله " أفطر في رمضان " لا يراد به الفطر كله بل لا يراد به إلا أنه أفطر بالجماع في نهار
رمضان ، فإن قلت :- ولماذا تقيده بذلك مع أن الحديث أطلق الفطر بلا قيد ؟ فأقول :-
هذا هو بيت القصيد من تأليف هذه الرسالة ، وهي بيان أهمية ربط المطلق بالمقيد ،
وأنهما أخوان لا ينفكان عن بعضهما ، وبيان ذلك أن هذا الحديث قد رواه الشيخان من
نفس الوجه ولكن بالتقييد ، وقد ذكرت لك الحديث في فرع سابق ، ولكن فيه "وقعتُ
على امرأتي وأنا صائم" فهذا القيد لا بد من إعماله ، فيكون القول الراجح هو
أن الكفارة المغلظة لا تكون في أي مفسد من مفسدات الصوم إلا في الجماع خاصة ، فمن
جامع أهله عالما ذاكرا صومه فإن عليه هذه الكفارة ، وأما من أفسد صومه بالأكل
والشرب مثلا أو بالقيء عمدا أو بالحجامة عمدا فإنه لا تجب عليه الكفارة المغلظة ،
وذلك لأن المطلق في حديث " أفطر رجل في رمضان " قد قيدناه بالروايات
الأخرى التي تفيد أنه أفطر بالجماع ، والمتقرر في الأصول عند الأئمة الفحول أن
المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، قال الحافظ رحمه الله تعالى في
الفتح (ووقع في رواية مالك وبن جريج وغيرهما كما سيأتي بيانه بعد قليل في الكلام
على الترتيب والتخيير في أول الحديث أن رجلا أفطر في رمضان فأمره النبي صلى الله
عليه و سلم الحديث واستدل به على إيجاب الكفارة على من أفسد صيامه مطلقا بأي شيء
كان وهو قول المالكية وقد تقدم نقل الخلاف فيه والجمهور حملوا قوله أفطر هنا على
المقيد في الرواية الأخرى وهو قوله وقعت على أهلي وكأنه قال أفطر بجماع وهو أولى
من دعوى القرطبي وغيره تعدد القصة ) والله تعالى أعلى وأعلم .
الفرع الموفي
للأربعين
: روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ
نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ أَحْنَاهُ عَلَى طِفْلٍ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي
ذَاتِ يَدِهِ " فقوله " نساء قريش " ورد هكذا في هذه الرواية ، وهو
مطلق ، يدخل فيه كل نساء قريش ، ولكن هذا الإطلاق غير مراد ، لأنه ورد في رواية
أخرى التقييد بالصالحات فقال البخاري رحمه
الله تعالى في صحيحه :- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
"خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ
عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ" فهنا
قيد النساء بالصالحات ، فتكون هذه الخيرية ليس في عامة نساء قريش ، بل هي في
الصالحات فقط ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح (ويمكن أن يقال أيضا
أن الظاهر أن الحديث سيق في معرض الترغيب في نكاح القرشيات فليس فيه التعرض لمريم
ولا لغيرها ممن انقضى زمنهن قوله صالح نساء قريش كذا للأكثر بالإفراد وفي رواية
غير الكشميهني "صلح" بضم أوله وتشديد اللام بصيغة الجمع وسيأتي في أواخر
النفقات من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ نساء قريش والمطلق محمول على المقيد فالمحكوم
له بالخيرية الصالحات من نساء قريش لا على العموم والمراد بالصلاح هنا صلاح الدين
وحسن المخالطة مع الزوج ونحو ذلك )
الفرع الحادي
والأربعون
: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «السنة ، إِذا تزوج البكر : أقام عندها سبعا.
وإِذا تزوج الثيب : أقام عندها ثلاثا» أخرجه البخاري ، ومسلم. وفي رواية
الموطأ عن أنس كان يقول «للبكر سبع. وللثيب ثلاث» فأنت ترى أن الحديث هاهنا مطلق ،
واختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في هذه المسألة ، فمن أهل العلم من قال :- إن
هذا التقسيم من حقوق المرأة مطلقا ، سواء أكان عنده زوجة سابقة أو لا ، فمن تزوج
البكر فلا بد أن يقيم عندها سبعا ، ولو كانت هي الزوجة الأولى ، ومن تزوج الثيب
أقام عندها ثلاثا ولو كانت هي الزوجة الأولى ، قال ابن عبدالبر رحمه الله تعالى
(جمهور العلماء على أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف وسواء كان عنده زوجة أم لا )
بينما ذهب بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى إلى أن هذا التقسيم والتفريق بين البكر
والثيب إنما هو فيمن كانت عنده زوجة أولى ، فإن تزوج عليها فلا يخلو من حالتين :-
إما أن يتزوج بكرا ، فهنا يقيم عندها سبعة أيام ، وإن كانت الزوجة الثانية ثيبا
فحقها أن يقيم عندها ثلاثة أيام ، فالأحاديث السابقة محمولة على من تزوج الزوجة
الثانية ، وهذا هو الحق في هذه المسألة وما ذلك إلا لأن الأحاديث السابقة قد ورد لها ما
يقيد إطلاقها ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «من السنة ، إِذا تزوج البكر على
الثيب : أقام عندها سبعا ، وقسم. وإِذا تزوج الثيب : أقام عندها ثلاثا. ثم قسم» ولأن
البكر أو الثيب لو كانت هي الزوجة الأولى فلا داعي للقسمة بين ثلاثة أيام أو سبعة
أيام إذ لا مشارك لها في زوجها ، بل الأيام كلها لها ، قال الحافظ رحمه الله تعالى
في كتابه الطيب فتح الباري ، في سياق شرحه لحديث أنس هذا ( واستدل به على أن هذا
العدل يختص بمن له زوجة قبل الجديدة وقال بن عبد البر جمهور العلماء على أن ذلك حق
للمرأة بسبب الزفاف وسواء كان عنده زوجة أم لا وحكى النووي أنه يستحب إذا لم يكن
عنده غيرها وإلا فيجب وهذا يوافق كلام أكثر الأصحاب واختار النووي أن لا فرق
وإطلاق الشافعي يعضده ولكن يشهد للأول قوله في حديث الباب إذا تزوج البكر على
الثيب ويمكن أن يتمسك للآخر بسياق بشر عن خالد الذي في الباب قبله فإنه قال إذا تزوج
البكر أقام عندها سبعا الحديث ولم يقيده بما إذا تزوجها على غيرها لكن القاعدة أن
المطلق محمول على المقيد بل ثبت في رواية خالد التقييد فعند مسلم من طريق هشيم عن
خالد "إذا تزوج البكر على الثيب" الحديث ويؤيده أيضا قوله في حديث الباب
"ثم قسم" لأن القسم إنما يكون لمن عنده زوجة أخرى )
الفرع الثاني
والأربعون
: القول الصحيح أن الحديث الوارد في النهي عن التزعفر إنما هو في حق الرجال خاصة ،
وما ورد مطلقا في النهي عنه قد ورد في روايات أخرى مقيدا ، ففي النسائي أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن التزعفر ... وهذا نهي مطلق ، من غير تفصيل ، ولكن روى
البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أَن يَتَزَعفَر الرجل» قال البخاري رحمه الله تعالى ( باب
النهي عن التزعفر للرجال ) فقيده بالرجل مراعاة لإعمال القيد ، وقال الحافظ رحمه
الله تعالى في شرح هذه الترجمة (أي في الجسد لأنه ترجم بعده باب الثوب المزعفر
وقيده بالرجل ليخرج المرأة ) وقال الحافظ أيضا (قوله "أن يتزعفر الرجل "
كذا رواه عبد الوارث وهو ابن سعيد (مقيدا) ووافقه إسماعيل بن علية وحماد بن زيد
عند مسلم وأصحاب السنن ووقع في رواية حماد بن زيد "نهى عن التزعفر
للرجال" ورواه شعبة عن ابن علية عند النسائي مطلقا فقال "نهى عن
التزعفر" وكأنه اختصره وإلا فقد رواه عن إسماعيل فوق العشرة من الحفاظ مقيدا
بالرجل ويحتمل أن يكون إسماعيل اختصره لما حدث به شعبة والمطلق محمول على
المقيد)وبه تعلم فائدتين , الأولى :- أن النهي عن التزعفر إنما هو في حق الرجال
فقط ، الثانية :- أن تعلم أن المنهي عنه إنما هو التزعفر في الجسد لا في الثوب كما
أفاده الحافظ رحمه الله تعالى ، والله تعالى أعلى وأعلم .
الفرع الثالث
والأربعون
: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال «إِذا اقْتَربَ الزَّمانُ ، لم تَكَدْ رُؤْيَا
المُؤمن تكذب - ومنهم من قال: لَمْ تَكذبْ رُؤْيَا المؤمن - ورُؤيا المؤمِنِ جُزءٌ
من سِتَّةٍ وأَرْبَعينَ جُزْءا مِنَ النُّبوّةِ» وزادَ بعضُهُم : وما كان من
النُّبُوَّةِ فإِنَّهُ لا يَكْذِبُ.فهنا ذكر المؤمن فقط ، وأنت تعرف أن المؤمنين
فيهم وفيهم ، وقد قيد هذا الإطلاق في رواية أخرى بقوله «رؤيا الرجل الصالح»
والصلاح وصف زائد على الإيمان ، ولا بد من اعتباره وكما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر
«الرؤيا الحسنة من الرجلِ الصالح ، جزءٌ من ستة وأربعين جزءا من النبوة» قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى (وهذا يؤيد ما تقدم أن الرؤيا لا تكون إلا من
أجزاء النبوة إن صدرت من مسلم صادق صالح ومن ثم قيد بذلك في حديث "رؤيا
المسلم جزء" فإنه جاء مطلقا مقتصرا على المسلم فأخرج الكافر وجاء مقيدا بالصالح
تارة وبالصالحة وبالحسنة وبالصادقة كما تقدم بيانه فيحمل المطلق على المقيد وهو
الذي يناسب حاله حال النبي فيكرم بما أكرم به النبي وهو الاطلاع على شيء من الغيب
فأما الكافر والمنافق والكاذب والمخلط وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات فإنها لا
تكون من الوحي ولا من النبوة إذ ليس كل من صدق في شيء ما يكون خبره ذلك نبوة فقد
يقول الكاهن كلمة حق وقد يحدث المنجم فيصيب لكن كل ذلك على الندور والقلة والله
أعلم ) .
الفرع الرابع
والأربعون
: قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة وما أطعمت ولدك
فهو لك صدقة وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة وما أطعمت نفسك فهو لك صدقة " قال
المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير (إن نواه في الكل كما دل عليه تقييده في
الخبر الصحيح بقوله وهو يحتسبها فيحمل المطلق على المقيد قال القرطبي : أفاد
منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة سواء كانت واجبة أو مباحة وأفاد
مفهومه أن من لم يقصد القربة لا يؤجر لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة لأنها
معقولة المعنى وأطلق الصدقة على النفقة مجازا والمراد بها الأجر والقرينة الصارفة
عن الحقيقة الإجماع على جواز النفقة على الزوجة الهاشمية التي حرمت عليها الصدقة)
قلت :- وما قاله حق ، فإن النفقة على الزوجة لا أجر فيها إلا إن احتسبها العبد ،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله
تعالى إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك " وقال " إذا أنفق
الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة " فهذا القيد لا بد من اعتباره ، ولأن
المتقرر أن الأعمال مربوطة بنياتها والأمور معلقة بمقاصدها ، والمتقرر أنه لا ثواب
إلا بالنية ، فلا بد من إعمال القيد الوارد لأن المتقرر في القواعد أن المطلق يبنى
على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله أعلم .
الفرع الخامس
والأربعون
: اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكم غسل اليد حال القيام من نوم الليل ،
على أقوال ، والقول الصحيح إن شاء الله تعالى أنه واجب ، لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " فلا يغمس يده في الإناء " والنهي يقتضي التحريم ، وقال
" فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا " وهذا أمر والمتقرر أن
الأمر يفيد الوجوب ، ولكن اختلف القائلون بأنها تغسل سواء وجوبا أو ندبا ، اختلفوا
، هل مشروعية غسلها تكون بعد كل نوم ، سواء في الليل أو النهار ، أم أن المشروعية
لا تكون إلا بالقيام من نوم الليل ؟ والقول الصحيح في هذه المسألة هو أن المشروعية
لا تكون إلا عند القيام من نوم الليل ، فإن قلت :- فإن حديث أبي هريرة ورد مطلقا
من غير تقييد ، فقال " من نومه " فيدخل فيه كل نوم "؟ فأقول :- نعم
، ولكن هنا قيدان لا بد من اعتبارهما ، وهما :- أن هذا الحديث قد رواه الترمذي
وابن ماجه رحمهما الله تعالى في سننهما بلفظ " إذا قام أحدكم من الليل "
وهذا قيد لا بد من اعتباره ، والثاني :- أنه قال في نفس الحديث" لا يدري أين
باتت يده " ومن المعلوم أن البيتوتة لا تكون إلا في الليل ، لأن نوم النهار
يقال له (قيلولة) وأما نوم الليل فيقال له ( بيتوتة ) وبما أن المطلق قد ورد ما
يقيده ، فنقول :- هذه المشروعية إنما هي في القيام من نوم الليل فقط ، فمن استيقظ
من نوم الليل وكان نومه من النوم الناقض للوضوء وأراد أن يتوضأ في إناء فيجب عليه
أولا أن يغسل يديه خارج الإناء ثلاثا ، والله أعلم .
الفرع السادس
والأربعون
: قال مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه :- حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
أَخْبَرَنَا الْمَخْزُومِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصَمِّ حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ
وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ " فهنا تراه قد أطلق في مسألة المرأة والكلب ، ولكن
هذا ليس على إطلاقه ، فقد ورد ما يقيده ، وذلك فيما رواه مسلم في الصحيح قال :-
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ ابْنُ
عُلَيَّةَ قَالَ ح و حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ يُونُسَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا
كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ
يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ
وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ " قُلْتُ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا بَالُ
الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ
قَالَ يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ ... فهذا
قيد في الكلب وأنه لا يقطع الصلاة بأي لون ، بل لا بد وأن يكون الكلب ذا اللون
الأسود خاصة ، فورود الكلب مطلقا في الحديث الأول مقيد بهذه الرواية ، لأن المتقرر
أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، وأما المرأة ففيها
قيدان الأول :- أن تكون مارة لا وافقة أو
معترضة ، فالصحيح أنه لا يقطع الصلاة إلا مرورها وأما من صلى وهي بين يديه من غير
مرور فلا حرج ، ويدل لهذا القيد حديث عائشة رضي الله عنها قالت:- قَدْ شَبَّهْتُمُونَا
بِالْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً فَتَبْدُو لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ
فَأُوذِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْسَلُّ مِنْ
عِنْدِ رِجْلَيْهِ.... وكلامها هذا فيما إن كانت المرأة ماكثة بين يدي المصلي ،
والحديث في القطع محمول على المرور ، والقيد الثاني :- أن تكون بالغة ، وهي التي
يعبر عنها بالمرأة الحائض ، أي من بلغت سن الحيض ، وورد في بعض الروايات «يقطع
الصلاة : المرأة الحائض ، والكلب» قال في مرعاة المفاتيح (ولأبي داود وابن ماجه من
حديث ابن عباس "يقطع الصلاة المرأة الحائض". قال السندي: يحتمل أن
المراد ما بلغت سن الحيض أي: البالغة وهي المتبادرة من لفظ المرأة. وعلى هذا
فالصغيرة لا تقطع قلت: تقييد المرأة بالحائض يقتضي حمل المطلق على المقيد، فلا
تقطع الصلاة إلا الحائض، كما أنه أطلق الكلب عن وصفه بالأسود في حديث أبي هريرة
هذا، وقيد به في حديث أبي ذر عند مسلم وغيره، فحملوا المطلق على المقيد، وقالوا:
لا يقطع إلا الأسود، فتعين في المرأة الحائض حمل المطلق على المقيد) فالقول الصحيح
هو أن مرور المرأة يقطع الصلاة ، والصحيح أن مكثها بين يدي المصلي لا أثر له في
الصلاة ، والصحيح أن المرأة الصغيرة التي لم تبلغ لا تقطع الصلاة ، والصحيح أن
الكلب لا يؤثر في قطع الصلاة إلا إن كان لونه أسود وأما الكلب الأصفر والأبيض والأحمر فلا أثر لها
، والله أعلم .
الفرع السابع
والأربعون
: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" والحديث
في الصحيح ، ولا مطعن فيه ، والمقصود أنه هنا قال " ببكاء " وأطلق هذا
البكاء ، ولكن ورد في الأحاديث الأخرى تقييد لهذا البكاء الذي يحصل به عذاب الميت
، وهو بكاء النياحة فقط وأما البكاء الذي
لا يكون فيه نياحة ، فهذا أمر جبلي فطري لا حرج على العبد فيه ، بل النبي صلى الله
عليه وسلم بكى وسالت دموعه لما مات بعض أبنائه وبناته ، وقال عليه الصلاة والسلام
"إن الله تعالى لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ، ولكن يعذب بهذا - وأشار
إلى لسانه - أو يرحم" أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فالبكاء الوارد في
حديث ابن عمر رضي الله عنهما إنما يراد به بكاء النياحة ، وهو البكاء الذي يكون
معه الدعاء بالويل والثبور ورفع الصوت والصراخ وتعداد فضائل الميت وقول النائحة (
واعضداه ، واناصراه ، واجبلاه ) ونحو هذه الألفاظ ، فهذا هو البكاء الذي يعذب
الميت في قبره بسببه ، ومن المعلوم أننا قد قلنا في مواضع أخرى أن المراد بالعذاب
هنا إنما هو أذى الروح الذي يحصل له بعلمه أن أهله ينوحون عليه ، فالعذاب هنا
كالعذاب في قوله صلى الله عليه وسلم" السفر قطعة من العذاب " واختاره
أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ، والمهم إن قلت لي :- وأين الدليل الدال
على تقييد البكاء بالنياحة ، فأقول :- الدليل على هذا القيد حديث المغيرة بن شعبة،
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نيح عليه، فإنه يعذب بما نيح عليه
يوم القيامة " قال في مرعاة المفاتيح (أي سواء كان الباكي من أهل الميت أم
لا، فليس الحكم مختصاً بأهله، وقوله "ببكاء أهله عليه" في الرواية
الآتية خرج مخرج الغالب؛ لأن المعروف أنه إنما يبكي على الميت أهله. ووقع في بعض
طرق حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة "من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح
عليه"، فرواية الباب عامة في البكاء، وهذه الرواية خاصة في النياحة، فيحمل
المطلق على المقيد، وتكون الرواية التي فيها مطلق البكاء محمولة على البكاء بنوح.
ويؤيد ذلك إجماع العلماء على حمل ذلك على البكاء بنوح. ومما يدل على أنه ليس
المراد عموم البكاء قوله صلى الله عليه وسلم
في حديث عمر " إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه" فقيد ببعض
البكاء، فحمل على ما فيه نياحة جمعاً بين الأحاديث. قال الشوكاني: حكى النووي
إجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم أن المراد بالبكاء الذي يعذب الميت عليه هو
البكاء بصوت ونياحة لا بمجرد دمع العين) فأقول :- لما ورد البكاء مقيدا ببكاء
النياحة ، فلنا به ، لأن المتقرر أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم
والسبب ، والله أعلم .
الفرع الثامن
والأربعون
: قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا ، فيأكل
منه دابة أو إنسان إلا كان له به صدقة " ورد في بعض الروايات " ما من
رجل " وفي بعض الروايات " ما من عبد " فالروايات هنا مطلقة ومقيدة
، قال في مرعاة المفاتيح في شرح الحديث (قوله "ما من مسلم" أخرج الكافر
لأنه رتب على ذلك، كون ما أكل منه يكون له صدقة والمراد بالصدقة الثواب في الآخرة،
وذلك يختص بالمسلم دون الكافر، لأن القرب إنما تصح من المسلم فإن تصدق الكافر أو
فعل شيئاً من وجوه البر لم يكن له أجر في الآخرة، نعم ما أكل من زرع الكافر يثاب
عليه في الدنيا كما ثبت دليله. وأما من قال يخفف عنه بذلك من عذاب الآخرة فيحتاج
إلى دليل. ونقل عياض الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها
بنعيم ولا تخفيف عذاب، لكن بعضهم أشد عذاباً من بعضهم بحسب جرائمهم. وأما حديث أبي
أيوب عند أحمد مرفوعاً ما من رجل يغرس، وحديث ما من عبد فظاهرهما يتناول المسلم
والكافر لكن يحمل المطلق على المقيد، والمراد بالمسلم الجنس فتدخل المرأة المسلمة
) والأمر كما قال رحمه الله تعالى لضرورة بناء المطلق على المقيد .
الفرع التاسع
والأربعون
: مما يذكره أهل العلم رحمهم الله تعالى في باب السرقة البحث في شروط السرقة ، فمن
شروطها أن يكون المسروق مالا ، فمن سرق ما لا يدخل في حد المالية عند الفقهاء فلا
قطع عليه ، وفي ذلك قال في المبدع شرح المقنع وهو يتكلم عن الشرط الثاني من شروط
السرقة (الثاني: أن يكون المسروق مالا لأن ما ليس بمال لا حرمة له فلم يجب به قطع
والأحاديث دالة على ذلك مع أن غير المال لا يساوي المال فلا يلحق به لا يقال الآية
مطلقة لأن الأخبار مقيدة به فيحمل المطلق على المقيد فعلى هذا لا يقطع بسرقة كلب
وإن كان معلما لأنه ليس بمال ) والله أعلم .
الفرع الموفي
للخمسين
: في أحاديث المصراة وأن من حلبها ثم أراد أن يردها قد وردت الأحاديث بأنه يرد
معها صاعا من طعام لا سمراء ، ففي صحيح مسلم في حديث المصراة رواه بلفظ «ردَّ معها
صاعًا من طعامٍ ، لا سَمْرَاء» فالطعام هنا مطلق ، ولكن قد ورد ما يبينه ، وأن
المراد به التمر فقال صلى الله عليه وسلم «لا تُصَرُّوا».وفي رواية «لا تُصَرُّوا
الإِبلَ والغنم ، فمن ابتاعها فهو بخير النظرَيْن بعد أن يَحْلِبها ، إِن شاء
أمْسَكَ ، وإنْ شاء رَدَّها وصاعًا من تَمرٍ» وفي رواية للبخاري قال «من اشترى
غنمًا مُصَرَّاةً فاحتلبها ، فإن رضيها أمسكها ، وإن سَخِطها ففي حَلبتها صاعٌ من
تمر» وفي أخرى لمسلم قال «مَنِ اشترى شَاةً مُصَرَّاةٌ فَلْيَنْقَلِبَ بِها
فَلْيَحْلِبْها ، فإِنْ رَضِيَ حلابها أَمسكها
وإِلا رَدَّها ومَعَها صاعٌ من تَمرٍ» وفي أُخرى له قال «مَنِ اشترى شاة
مصراةً فهو فيها بالخيار ثَلاثَة أيَّامٍ ، إِن شاء أمسكها ، وإنْ شاء رَدَّها ،
وردَّ معها صاعًا من تَمرٍ» فالرواية المطلقة تحمل على الرواية المقيدة ، لأن
المتقرر في الأصول أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب وعليه:-
فمن اشترى شاة مصراة وتبين له الغش ، وكان قد حلبها ، فإنه إن ردها فليرد معها
صاعا من تمر ، والإطلاق في لفظة ( طعام ) قد انتهى بالمقيد في الروايات الأخرى ،
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى في المغني (وَالْمُرَادُ بِالطَّعَامِ هَاهُنَا
التَّمْرُ ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ ، مُقَيَّدٌ فِي
الْآخَرِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَالْمُطْلَقُ فِيمَا هَذَا سَبِيلُهُ يُحْمَلُ
عَلَى الْمُقَيَّدِ ) والله ربنا أعلى وأعلم .
الفرع الحادي
والخمسون
: في حديث بريدة رضي الله عنه عند مسلم في بعث النبي صلى الله عليه وسلم الجيوش ،
وأنه كان يوصيهم بتقوى الله تعالى وغيرها من الوصايا ، فقد روى مسلم في الصحيح عن
بريدة رضي الله عنه قال :- كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّرَ أميرا
على جيشٍِ، أو سريَّةٍ ، أوْصَاهُُ في خاصَّته بتقْوى الله ، ومَنْ معهُ من
المسلمين خيرا ، ثم قال " اغْزُوا باسْمِ الله في سبيل الله ، قاتِلوا مَنْ
كفر بالله ، اغزوا ، ولا تغُلُّوا ، ولا تغْدِروا ، ولا تُمثِّلوا ، ولا تقْتُلوا
وَليدا ، وإذا لَقِيتَ عدوَّك من المُشْركين ، فادْعُهُمْ إلى ثلاثِ خصالٍ - أو
خلالٍ - فَأيَّتُهُنَّ ما أجابوك فاقْبَلْ منهم ، وكُفَّ عنهم ، ثُمَّ ادعهم ، إلى
الإسلام ، فإنْ أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم ، ثم ادْعهم إلى التَّحَوُّلِ مِنْ
دارِهم إلى دار المهاجرين ، وأَخبِرْهُمْ ، أَنَّهَمْ إنْ هم فعلوا ذلك فلهم ما لَلمُهاجرينَ ، وعليهم ما على
المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحوَّلوُا منها ، فأخبِرْهِمْ: أنَّهُمْ يكونُون كأعرابِ
المسلمين يَجْرى عليهم حُكْم اللهِ الذي يجرى على المؤمنين ، لا يكونُ لهم في
الغنيمة والفيئ شئٌ، إلا أَنْ يجاهدُوا مع المسلمين ، فإنْ هُمْ أبوْا فَسَلْهُمُ
الجِزْيةَ، فَإنْ هُمْ أجابُوكَ فاقْبَلْ منهم ، وكُفَّ عنهم ، فإنْ هم أبَوْا
فَاْستَعِنْ بالله عليهم وقاتلهم" والذي نريده هنا هو أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال له " وإذا لقيت عدوك من المشركين " وهذا فيه إطلاق ، فيدخل فيه
المشركون من أهل الكتاب ومن غير أهل الكتاب ، ثم أمره بعد ذلك أن يدعوهم إلى ثلاث
خصال وذكر منها " فإنْ هُمْ أبوْا
فَسَلْهُمُ الجِزْيةَ، فَإنْ هُمْ أجابُوكَ فاقْبَلْ منهم ، وكُفَّ عنهم" فهل
الجزية تقبل من غير أهل الكتاب ؟ هذا هو محط بحثنا في هذا الفرع ، فاختلف أهل
العلم رحمهم الله تعالى في ذلك ، والذي يترجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى هو
أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب ، لقول الله تعالى ]
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [
قال الشيخ محمد المختار الشنقيطي رحمه الله تعالى (الذي يترجح -والعلم عند الله-
أنه لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى ليس بعد نصه شيء
حينما قال عز وجل ] مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [ بعد تعميمه
لقتال المشركين، وأما حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه، حينما أمره النبي
صلى الله عليه وسلم أن يخير أثناء الجهاد، فهذا -كما لا يخفى عند الجميع- يعتبر من
المطلق المحمول على المقيد، فإن آية القرآن وردت في قضية الجزية بعينها واشترطت أن
يكونوا أهل كتاب، وأما بالنسبة لحديث بريدة ، فإنه مطلق، ولذلك يقيد إطلاقه
بالكتاب، وكم من أحاديث مطلقة قيدها الكتاب! وكم من أحاديث عامة خصصها الكتاب!
وحمل المطلق على المقيد مذهب معتبر في الأصول، ولذلك مما نرى من مقاصد الإسلام
العامة أنه لا يقر المشرك على شركه، ولا يقر الوثني على وثنيته، فيُنْصَر ويُعان
على ذلك، بل إنه حينما كُتِب كتاب عمر في الشروط العمرية بينه وبين أهل الكتاب،
مُنعوا من ضرب الناقوس، ومن إظهار شعائر دينهم، كل ذلك حتى يكون أبلغ في قبولهم
للإسلام، فكيف بالوثني الذي ليس له أصل من دين سماوي، فإنه بعيد منه أن يقبل بدين
الإسلام أو يرضاه ) والله أعلم .
الفرع الثاني
والخمسون
: عن سهل بن أي حثمة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهى عن
بَيع الثَّمَر بالتَّمْر ، ورَخَّص في العَرِيَّة أنْ تُبَاعَ بِخَرْصِها ،
يَأكُلُها أهْلُها رُطَبًا " وفي رواية عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، من أهل دَارِهِم - منهم سهل بن أبي حَثْمَة - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن
بيع الثَّمَرِ بالتَّمْر ، وقال " ذلك الرِّبا ، تلك المزابنة " إلا أنه
رخَّص في بيع العرِيَّة : النَّخلةِ والنخلتين ، يأخُذُها أهلُ البيت بِخَرْصًها
تَمرًا ، يأكلونها رُطُبَاً وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم رَخَّصَ لصاحب الْعَرِيَّةِ : أن يَبيعَها بِخَرصها من التَّمْر . فهذه
الأحاديث مطلقة عن التقدير ، ولكن الإطلاق غير مراد في الشرع بل ورد في الأحاديث ما يقيده ، وهو أن تكون
العرايا في مقدار خمسة أوسق ، فقط ، وعلى ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رَخَّص في بَيع العرايا بِخَرصِها من التَّمرِ فيما دون
خمسةِ أوْسُق ، أو في خمسة أوسق. أخرجه الجماعة. وبناء على هذا القيد فنقول:-
القول الصحيح أنه لا يجوز بيع العرايا إلا بهذا المقدار فقط ولا تجوز الزيادة عليه
، ولا حق لأحد أن يستدل بالروايات المطلقة ، لأنه قد ورد ما يقيدها ، والمتقرر عند
العلماء أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم ، قال ابن قدامة رحمه الله
تعالى في المغني (فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : أَرْخَصَ فِي الْعَرِيَّةِ مُطْلَقًا ،
فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الرُّخْصَةَ الْمُطْلَقَةَ سَابِقَةٌ عَلَى الرُّخْصَةِ
الْمُقَيَّدَةِ ، وَلَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا ، بَلْ الرُّخْصَةُ وَاحِدَةٌ ،
رَوَاهَا بَعْضُهُمْ مُطْلَقَةً وَبَعْضُهُمْ مُقَيَّدَةً ، فَيَجِبُ حَمْلُ
الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَيَصِيرُ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ فِي أَحَدِ
الْحَدِيثَيْنِ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْآخَرِ ، وَلِذَلِكَ يُقَيَّدُ فِيمَا
زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ اتِّفَاقًا)
والله أعلم .
الفرع الثالث
والخمسون
: في قول الله تبارك وتعالى في شأن دية الكافر المقتول وبيننا وبينهم عهد قال تعالى
] وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً
[ فهنا أطلق هذه
الدية ، ولم يحددها بشيء ، وبناء على هذا الإطلاق اختلف أهل العلم رحمهم الله
تعالى في تحديد هذه الدية ، وفي هذه المسألة يقول الشيخ محمد المختار الشنقيطي في
شرح الزاد (فالكتابي إذا قتله المسلم اختلف فيه العلماء رحمة الله عليهم على ثلاثة
أقوال مشهورة: القول الأول يقول: الكتابي ديته نصف دية المسلم، وهذا على ما اختاره
المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من السلف، وأيضاً مروي عن طائفة من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين. القول الثاني يقول: دية الكتابي مثل دية
المسلم، فإذا قتل المسلم كتابياً، فالواجب أن تدفع الدية لأوليائه وأهله كاملة مثل
المسلم، وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم. والقول الثالث يقول: دية الكتابي على
الثلث، وهو مذهب الشافعية، والأول مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله على الجميع. فالذين
قالوا: إن دية الكتابي مثل دية المسلم استدلوا بقوله تعالى ]
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [ وسوى في هذا
الوصف بين دية المسلم ودية الكتابي، وقالوا: هذا يدل على أن ديته كدية المسلم،
واستدلوا بحديث استظهر بعض العلماء عدم صحته، وبعضهم يقول: لا نعرف له أصلاً ( أن
النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الكتابي مثل دية المسلم ) قالوا: هذان الدليلان
من الكتاب والسنة يقتضيان أن الكافر الكتابي إذا قتله المسلم وجب دفع الدية إليه
كاملة كالمسلم سواءً بسواء، ثم قالوا: إنه لما أصبح ذمياً في بلاد المسلمين، له ما
للمسلمين وعليه ما على المسلمين، فتكون ديته مثل دية المسلم إذا اعتدي عليه. والذين
قالوا: إن الدية تكون على الثلث استدلوا بقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك
أنه جعل دية الكتابي على الثلث من دية المسلم، وعلى هذا يقولون: إنه تثلث الدية
ولا يعطى على التشطير، وقالوا: إن عمر بن الخطاب من الخلفاء الراشدين المأمور
باتباع سنتهم وهديهم، فيصبح هذا الحكم لازماً وسنة متبعة. والذين قالوا: إن دية
الكتابي على النصف من دية المسلم كما اختاره المصنف رحمه الله، وهو قول طائفة من
السلف كما ذكرنا استدلوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده أنه قال ( قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عقل الكتابي
على النصف من عقل المسلم ) وهذا الحديث حسن إسناده غير واحد من أهل العلم رحمة
الله عليهم، وهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جعل دية الكتابي نصف
دية المسلم. وبناءً على ذلك لما قال (الكتابي) شمل اليهود والنصارى، فتكون ديتهم
نصف دية المسلم؛ خمسين من الإبل في ذكورهم، وخمس وعشرين من الإبل في إناثهم كما سيأتي
إن شاء الله تعالى، وخمسمائة دينار بالنسبة للذهب، وستة آلاف درهم بالنسبة للفضة،
ومائة بقرة وألف شاة بالنسبة للبقية، ومائة حلة من الثياب على القول بأن الحلل
تدخل في أصول الديات.وهذا الحديث هو أصح، والقول به أرجح، ويجاب لما ورد في القرآن
في قوله تعالى ] فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [
أن هذا مطلق، وجاءت السنة فقيدته، والقاعدة (إن المطلق يحمل على المقيد) وكم قيدت
السنن من إطلاقات القرآن وخصصت من عموماته وبيّنت من إجمالاته، فلا إشكال أن السنة
تبين القرآن. ثانياً: الاستدلال بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه نقول: تعارض
المرفوع والموقوف، فيقدم المرفوع على الموقوف، ويعتذر لعمر بأنه يحتمل أنه لم
يبلغه قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الرواية عنه ضعفها بعض العلماء رحمة
الله عليهم في كونه قضى بالثلث الذي ذكروه.وعلى هذا يترجح القول الذي اختاره
المصنف: أن الكتابي ديته تكون على النصف من دية المسلم) قلت :- وهذا هو الراجح في
هذه المسألة لأن المطلق يبنى على المقيد عند الاتفاق في الحكم والسبب والله أعلم .
الفرع الرابع
والخمسون
: قال النبي صلى الله عليه وسلم " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " وأطلق
هذا الأخذ ، ولم يقيده بمدة معينة ، فمتى يكون الأخذ من الشارب مطلوبا ، ومتى
يتحقق هذا الوعيد على عدم أخذه ؟ هذا مما اختلف فيه أهل العلم رحمهم الله تعالى ،
والقول الصحيح في هذه المسألة هو أن المدة التي توجب الأخذ من الشارب هي أربعون
يوم ، فما كان دون ذلك فالأخذ من الشارب مستحب ، وأما ما زاد على هذا فالأخذ منه
واجب ، ودليل هذا التقييد ما رواه مسلم في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال :- وقت
لنا في قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار وحلق العانة أن لا نترك أكثر من
أربعين ليلة . ولأصحاب السنن " وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "
فهذا التوقيت من النبي صلى الله عليه وسلم هو قيد في الحديث الأول فلا يوصف من لم يأخذ من شاربه بأنه ليس منا إلا
إن تجاوز هذه المدة المقررة من النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن المتقرر في القواعد
أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله ربنا أعلى وأعلم .
الفرع الخامس والخمسون : لقد ذهب بعض
أهل العلم رحمهم الله تعالى إلى أن إذن الإمام لا يعتبر في جهاد الطلب ، وهو مذهب
ابن حزم ورواية في مذهب الإمام أحمد رحم الله الجميع رحمة واسعة ، وقد استدلوا
بقول الله تعالى ] فَقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا
وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا [ وجه
الاستدلال: قال ابن حزم (وهذا خطاب متوجه إلى كل مسلم، فكل أحد مأمور بالجهاد وإن
لم يكن معه أحد) ويناقش هذا الدليل بأنه لا دليل فيه على عدم استئذان الإمام، لأن
الخطاب في الأصل للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الإمام، والناس له تبع . وإنما
المراد بالآية أن المسلمين كانوا سراعاً إلى القتال قبل أن يفرض القتال، فلما أمر
الله سبحانه بالقتال تولى عنه قوم، فقال الله تعالى لنبيه: قد بلغت , قاتل وحدك ] لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ [ فسيكون منهم
ما كتب الله من فعلهم . ومن أدلتهم أيضا :- قوله تعالى ] يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا
جَمِيعًا [ وقوله تعالى ] انْفِرُوا
خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [
وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر في هذه الآيات بالنفير مطلقاً، ولم يقيد
الأمر بإذن الإمام .
ويناقش
هذا الاستدلال بأن الأمر المطلق في هذه الآيات مقيد بالأدلة الأخرى التي أوجبت
استئذان الإمام، وجعلت الاستنفار موكولاً إليه، كما يشير إليه قوله تعالى في سياق
الآية الثانية ] إِذَا قِيلَ
لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ والمطلق يحمل
على المقيد كما هو معلوم .ومن المقيدات أيضا :- قول الله تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [
وجه الاستدلال من الآية هو أنها نص في وجوب طاعة ولاة الأمر .ولهذا ذكر ابن تيمية
أن هذه الآية نزلت في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر
الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله ،
ومن المقيدات لهذه الأدلة المطلقة أيضا :- قوله تعالى ]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا
كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ
مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ وجه الاستدلال: أن الآية نصت على وجوب استئذان المؤمنين النبيَّ
صلى الله عليه وسلم في الأمور الجامعة التي يحتاج الإمام فيها إلى جمع الناس
لإذاعة مصلحة، من إقامة سنة في الدين، أو ترهيب عدو باجتماعهم، وللحروب . ويؤيد
هذا أنه جاء في سياق الآيات أن عدم الاستئذان يعد خروجاً عن الطاعة، وسبباً لسخط
الله وعذابه، كما قال تعالى ] قَدْ يَعْلَمُ
اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ [ ولأن الأمير أعرف بحال الناس، وحال العدو، ومكامنهم، ومواضعهم، وقربهم
وبعدهم . فإذا خرج خارج بغير إذنه، لم يأمن أن يصادف كميناً للعدو، فيأخذوه، أو
طليعة لهم . وإذا كان بإذن الأمير، لم يأذن لهم إلا إلى مكان آمن، وربما يبعث معهم
من الجيش من يحرسهم ويطلع لهم . فالقول الصحيح والرأي الذي لا ينبغي القول بغيره
هو أن جهاد الطلب لا بد فيه من إذن الإمام ، وأمور الناس في هذه المسائل لا بد أن
ترجع إلى الإمام ونظره واجتهاده ، وإلا لانفلت الزمام وكل جاء بالأعاجيب ، وما ورد
مطلقا من الآيات والأحاديث فإنه قد ورد ما يقيدها ، والمتقرر أن المطلق يحمل على
المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله أعلم .
الفرع السادس
والخمسون
: في رواية النسائي رحمه الله تعالى أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال
«إِنَّما مَثَلُ المهجِّرِ إِلى الصلاة كمثلِ الذي يُهْدي بَدنَة ، ثم الذي على
إِثره كالذي يُهدي بقرة ثم الذي على إِثره كالذي يُهْدِي الكبشَ، ثم الذي على إِثره
كالذي يُهْدي الدجاجةَ، ثم الذي على إِثره كالذي يُهْدي البيضةَ» فهنا رتب الثواب
هذا على التهجير فقط ، ولكنه في رواية أخرى رتبه على الاغتسال والتبكير ، فزاد قيد
الاغتسال ، والمتقرر أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، قال في
طرح التثريب في الفائدة الثامنة ( أَطْلَقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ
الْمُهَجِّرَ إلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً وَقَيَّدَ فِي الرِّوَايَةِ
الْأُخْرَى فَقَالَ : "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ
الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً " فَاقْتَضَى هَذَا
أَنَّ التَّهْجِيرَ إلَى الْجُمُعَةِ إنَّمَا يَكُونُ كَإِهْدَاءِ الْبَدَنَةِ
وَكَذَا الْمَذْكُورَاتُ بَعْدَهُ بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الِاغْتِسَالِ عَلَيْهِ فِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْقَاعِدَةُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ) والله
أعلم .
الفرع السابع
والخمسون
: في حديث عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَا مِنْ مَرَضٍ أَوْ وَجَعٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ إلَّا
كَانَ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا أَوْ النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا"
قال العراقي الابن في طرح التثريب في الفائدة الثالثة (ظَاهِرُ قَوْلِهِ إلَّا
كَانَ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ رَتَّبَ تَكْفِيرَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ عَلَى مُطْلَقِ
الْمَرَضِ وَالْوَجَعِ لِلْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ لِذَنْبِهِ فَإِنَّهُ
مُفْرَدٌ مُضَافٌ لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ فِي الْكَبَائِرِ
بَلْ قَالُوا إنَّ تَكْفِيرَهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ ، وَطَرَدُوا
ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُكَفِّرَاتِ مِنْ الْأَعْمَالِ ، وَالْمَشَاقِّ ،
وَأَصْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وُرُودُهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
"الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ ، وَرَمَضَانُ
إلَى رَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ
" فَحَمَلُوا الْمُطْلَقَاتِ الْوَارِدَةَ فِي التَّكْفِيرِ عَلَى
الْمُقَيَّدِ ، وَالْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ الْمَرَضِ وَإِنْ خَفَّ ، وَالْوَجَعِ
وَإِنْ خَفَّ لِجَمِيعِ الصَّغَائِرِ فِيهِ بَعْدُ ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ
الَّذِي فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ ، وَلَمْ
يَذْكُرْ تَكْفِيرَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ بَلْ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ
" قَصَّ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطِيئَتِهِ" صَرِيحٌ فِي تَكْفِيرِ الْبَعْضِ ، وَوَرَدَ
فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُكَفَّرَ خَطِيئَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ
أُخْرَى ضَعِيفَةٍ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ فَيُحْمَلُ لَفْظُ الرِّوَايَةِ الَّتِي
رَوَاهَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ صَالِحٌ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ فَيُكَفِّرُ
اللَّه بِهِ مَا يَشَاءُ مِنْهَا ، وَتَكُونُ كَثْرَةُ التَّكْفِيرِ ، وَقِلَّتُهُ
بِاعْتِبَارِ شِدَّةِ الْمَرَضِ وَخِفَّتِهِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ تَكْفِيرَ
جَمِيعِ الذُّنُوبِ بِمَرَضِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَوَرَدَ بِحُمَّى لَيْلَةٍ ،
وَكِلَاهُمَا لَمْ يَصِحَّ فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمَيْهِ الْأَوْسَطِ
، وَالصَّغِيرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ " ،
وَفِي سَنَدِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ ،
وَهُوَ مَتْرُوكٌ ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَرَضِ
وَالْكَفَّارَاتِ عَنْ الْحَسَنِ رَفَعَهُ قَالَ " إنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ لَيُكَفِّرُ عَنْ الْمُؤْمِنِ خَطَايَاهُ كُلَّهَا بِحُمَّى لَيْلَةٍ
" قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ هَذَا مِنْ جَيِّدِ الْحَدِيثِ قُلْت لَكِنَّ
مُرْسَلَاتِ الْحَسَنِ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ) والله
أعلم .
الفرع الثامن
والخمسون
: قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى وهو يتكلم عن ذبائح أهل الكتاب التي
تركوا عليها التسمية بعد بحث في الأقوال وأدلتها ، ثم قال ( والذي يترجح هو القول
الأول وهو التحريم مطلقًا لعموم قوله تعالى ]
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ
الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ [
وهذا مما أهل به لغير الله وإباحة ذبائح أهل الكتاب وإن كانت مطلقة: لكنها مقيدة
بما لم يهلوا به لغير الله فلا يجوز تعطيل القيد وإلغاؤه بل يحمل المطلق على
المقيد وإن ادعى المخالفون العكس فقالوا آية ]
وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ [ هي المطلقة وآية ]وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ[ مقيدة
فيحمل المطلق على المقيد فتقيد ذبيحة الكتابي ما أهل به لغير الله ويبقي مطلقًا
فيما سواها.قلنا: بل الصواب العكس فقوله تعالى ]
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ [ مطلق فيما أهل به لله - وما أهل به لغيره - قيد منه ما أهل به
لغيره وبقي ما عداه. وهذا أولى لوجوه: أحدها: أنه قد نص سبحانه على تحريم ما لم يذكر عليه اسمه ونهى عن أكله
وأخبر أنه فسق وهذا تنبيه على أن ما ذكر عليه اسم غيره أشد تحريمًا وأولى بأن يكون
فسقًا فلا يحل ومن ذلك هذه المسألة التي نحن بصددها.الثاني: أن قوله ] وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ
لَّكُمْ [ قد خص منه ما
يستحلونه من الميتة والدم ولحم الخنزير فلأن يخص منه ما يستحلونه ما أهل به لغير
الله أولى وأحرى.
فليس
المراد من طعامهم ما يستحلونه وإن كان محرمًا عليهم فهذا لا يمكن القول به بل
المراد به ما أباحه الله لهم فإن الخنزير من طعامهم الذي يستحلونه ولا يباح لنا
فتحريم ما أهل به لغير الله عليهم أعظم من تحريم الخنزير لأن تحريم ما أهل به لغير
الله من باب تحريم الشرك وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير من باب تحريم الخبائث
والمعاصي.ولا شك أن تحريم الخبائث دون تحريم الشرك ) قلت :- وما قاله الشيخ في هذه
المسألة هو الراجح إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
الفرع التاسع
والخمسون
: لا جرم أنك تعلم أيها الأخ المبارك أن يوم العيد لا يجوز صومه ولكن قال النبي
صلى الله عليه وسلم "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر "
فكيف يكون هذا الإتباع مع أن يوم العيد لا يجوز صومه ؟ أقول :- هذا الحديث مطلق ،
وقد قيدته الأدلة الأخرى ، وبينت أن هذا الإتباع إنما يكون بعد يوم الفطر ، وذلك
لثلاثة أمور , الأول :- لأن الأدلة وردت بتحريم صوم يومي العيدين ، والنهي محمول
فيها على التحريم ، فيكون هذا اليوم غير داخل في مسألة صيام الست من شوال لأن
الدليل أخرجه ، الثاني :- أن حديث صيام الست من شوال قد ورد مقيدا بما بعد الفطر ،
فعن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال "من صام رمضان وستة
أيام بعد الفطر كان تمام السنة من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" رواه ابن
ماجه ، ولكن فيه مقال ، قال الشوكاني رحمه الله تعالى في النيل (قوله "بعد
الفطر" أي بعد اليوم الذي يفطر فيه وهو يوم عيد الإفطار فيحمل المطلق على
المقيد ويكون المراد بالست ثاني الفطر إلى آخر سابعه ) ولكن كما ذكرت لك الحديث
فيه مقال ، الثالث :- أن المتقرر أنه لا يجوز تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين ، كما
قال عليه الصلاة والسلام " لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان
يصوم صوما فليصمه " متفق عليه ، فكما أنه لا يجوز وصل رمضان بما ليس منه من
الصوم فكذا لا يجوز إعقابه بصوم ليس منه في آخره ، حتى لا يلحق بالعبادة ما ليس
منها والشارع الحكيم له اهتمام كبير -
بحسب الأدلة - في ابتداء العبادات وختمها ، فلا يبدأها بما ليس منها ، ولا يختمها
بما ليس منها ، والله أعلم .
الفرع الموفي
للستين
: سئل الشيخ صالح بن فوزان حفظه الله تعالى وأجزل له الأجر والمثوبة وجزاه الله
تعالى على جهاده ودفاعه عن الشريعة خير الجزاء ، سئل عن معنى الآيتين الكريمتين في
قوله تعالى ]
وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى {
وقوله تعالى ] وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ [ وهل بينهما نسخ أو تعارض وماذا نستفيد منهما ؟ فأجاب حفظه الله
تعالى بقوله (ليس بين الآيتين إشكال ذلك أن الآية الأولى فيها أن الإنسان لا يملك
إلا سعيه، ولا يملك سعي غيره، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فملكيته محصورة في سعيه
لا ينفعه إلا سعيه، بينما الآية الأخرى فيها أن الذرية إذا آمنت فإنها تلحق
بآبائها في الجنة، وتكون معهم في درجتهم وإن لم تكن عملت عملهم ، فالذرية إذن استفادت
من عمل غيرها .قال تعالى ]وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم
بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم
مِّن شَيْءٍ[ الآية الكريمة
تدل على أن الذرية يلحقون بآبائهم في درجاتهم، ويرفعون في درجاتهم، وإن لم يكن
عملهم كعمل آبائهم .فظاهر الآية أنهم انتفعوا بعمل غيرهم وسعي غيرهم بينما الآية
الأخرى تفيد أن الإنسان لا ينفعه إلا سعيه، وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال بعدة
أجوبة الجواب الأول : أن الآية الأولى ] وَأَن لَّيْسَ
لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى [ مطلقة والآية
الثانية ] أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [ مقيدة،
والمطلق يحمل على المقيد كما هو مقرر في علم الأصول .والقول الثاني : أن الآية
الأولى : تخبر أن الإنسان لا يملك إلا سعيه ولا ينفعه إلا سعيه ولكنها لم تنف أن
الإنسان ينتفع بعمل غيره من غير تملك له، فالآية الأولى في الملكية، والآية
الثانية في الانتفاع .
إن
الإنسان قد ينتفع بعمل غيره وإن لم يكن ملكه، ولهذا ينفعه إذا تصدق عنه وينفعه إذا
استغفر له ودعا له، فالإنسان يستفيد من دعاء غيره ومن عمل غيره وهو ميت، والانتفاع
غير الملكية، فالآية الأولى في نوع، والآية الثانية في نوع آخر، ولا تعارض بينهما
.وهذا الجواب أحسن من الأول . وهناك جواب ثالث هو أن الآية الأولى منسوخة، لأنها
في شرع من قبلنا لأن الله تعالى يقول ] أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى، وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى [
فهذه تحكي ما كان في صحف موسى وصحف إبراهيم عليهما السلام . لكن جاءت شريعتنا بأن
الإنسان ينتفع بعمل غيره فيكون ذلك نسخًا، وهذا الجواب ضعيف، والجواب الذي قبله
أرجح في نظري ) والله أعلم .
الفرع الحادي
والستون
: مما قد يعتقده بعض من يجيز الذكر الجماعي الاستدلال ببعض الأحاديث الواردة في
الترغيب في الذكر كقوله صلى الله عليه وسلم " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت
الله يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه فيما بينهم... الحديث " والحديث الآخر
والذي معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج على جماعة من أصحابه فقال لهم: ما
أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله فلم ينكر عليهم ذلك ، فيظن هذا البعض بأن هذه
النصوص قد تسعفهم في تشريع الذكر الجماعي الذي يفعله أهل البدع ، وقد سئل الشيخ
محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى عن هذه الأحاديث فأجاب بالجواب الحكيم الذي يقطع
الحجة فقال رحمه الله تعالى (الصواب في هذا الموضوع أن الحديث الذي أشار إليه
السائل بل الحديثين في الذين يتدارسون كتاب الله ويتلونه، وكذلك في القوم الذين
يذكرون الله: أن هذا مطلق، فيحمل على المقيد المتعارف في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه، ولم يكن من المتعارف بينهم أنهم يذكرون الله تعالى بلفظ جماعي، أو
يقرؤون القرآن بلفظ جماعي. وفي قوله: ويتدارسونه بينهم يدل على أن هذه المدارسة
تكون بالتناوب: إما أن يقرأ واحد فإذا أتم قراءته قرأ الثاني ما قرأ الأول وهكذا،
وإما أن يكون كل واحد منهم يقرأ جزءاً ثم يقرأ الآخر مما وقف عليه، الأول هذا هو
ظاهر الحديث. وأما الحديث الآخر الذي فيه أنهم يذكرون الله تعالى فإنا نقول: هذا
مطلق، فيحمل على ما كان متعارفاً عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
ولم يكن متعارفاً بينهم أن يجتمعوا وأن يذكروا بذكر واحد جماعة. ويدلك على هذا أن
الصحابة رضوان الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج كان منهم المكبر
ومنهم المهلل ومنهم الملبي، فكل إنسان يذكر الله تعالى بنفسه. وأما قوله تعالى ] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً
وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [ فهذا مراد به الذكر الخاص للمرء وهو أيضاً مخصوص بما دلت عليه
السنة من الجهر به، فإنه قد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس
رضي الله عنهما أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا يشرع الجهر بالذكر بعد الصلاة المكتوبة؛ لأن هذا
هو المعروف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قول بعض أهل العلم: إن الإسرار
به أفضل وإجابتهم عن حديث ابن عباس بأن ذلك للتعليم فإن فيه نظراً، وذلك لأن
التعليم يحصل بدون هذا، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد علم فقراء المهاجرين
ماذا يقولونه دبر الصلاة، قال عليه الصلاة والسلام " تسبحون
وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين " ثم إن التعليم يحصل بالمرة
الواحدة، لا بأن يحافظ عليه النبي عليه الصلاة والسلام في كل صلاة، أو يحافظون
عليه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام في كل صلاة. ثم نقول: سلمنا أنه للتعليم،
فهو في التعليم في أصل الذكر وفي صفته، بمعنى: أن الرسول يعلمهم ما هو الذكر الذي
يقال في أدبار الصلوات، وما كيفية تلاوة هذا الذكر والإتيان به أنه يكون جهراً،
وهذا هو القول الذي يؤيده حديث ابن عباس المذكور، وهو في صحيح البخاري ) فانظر كيف
سدت قاعدتنا بابا من أبواب أهل البدع حتى لا يلجوا في الأدلة ويحملوها ما لا تحتمل
، وهذا يبين لك أهمية التأصيل والتقعيد ، وهو المنهج الذي ندعو له أحبابنا من طلبة
العلم ، وفقهم الله تعالى لكل خير ، والله أعلم .
الفرع الثاني
والستون
: قال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية في زمنه (يجب على المستحاضة أَن
تغتسل غسلا واحدًا بعد انتهاء مدة حيضها ولا يجب عليها الاغتسال بعد ذلك وعليها أن
تتوضأ لكل صلاة حتى يأتي وقت التي بعدها. والأَصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن
عائشة رضي الله عنها قالت "جَاءَت فَاطِمَةُ بنتُ أَبيْ حُبَيْش إِلَى
النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَت يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنِّيْ
امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطهَرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ فَقَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ
بحَيْض فَإِذَا أَقْبَلَت حَيْضَتُك فَدَعِيْ الصَّلاَةَ وَإِذَا أَدْبَرَت
فَاغسِلِيْ عَنكِ الدَّمَ ثُمَّ تَوَضَئِيْ لِكُلِّ صَلاَة حَتَّى يَجيء ذَلِكَ
الْوَقتُ" وما ثبت فيهما أَيضًا عن عائشة رضي الله عنها "أَنَّ أُمّ
حَبيبَة اسْتُحِيْضَت سَبْعَ سِنِيْنَ فَسَأَلَت رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ذَلِكَ فَأَمَرَهَا أَن تَغتَسِلَ فَقَالَ هَذَا عِرْقٌ
فَكَانَت تَغتَسِلُ لِكُلِّ صَلاَة" وجهة الدلالة من هذين الحديثين أَن حديث
أُم حبيبة مطلق، وحديث فاطمة مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، فتغتسل عند إِدبار
حيضتها وتتوضأ لكل صلاة، فيبقى اغتسالها لكل صلاة على الأصل وهو عدم وجوبه، ولو
كان واجبًا لبينه صلى الله عليه وسلم وهذا محل البيان ولا يجوز للنبي صلى الله
عليه وسلم تأْخير البيان عن وقت الحاجة بإِجماع العلماء. قال النووي في شرح مسلم
بعد هذين الحديثين: واعلم أَنه لا يجب على المستحاضة الغسل لشيء من الصلوات ولا في
وقت من الأَوقات إِلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها، وبهذا قال جمهور العلماء من
السلف والخلف، وهو مروي عن علي وابن مسعود وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وهو
قول عروة بن الزبير وأَبي سلمة بن عبدالرحمن ومالك وأَبي حنيفة وأَحمد ) فجمع
الشيخ رحمه الله تعالى بين الحديثين بقاعدة المطلق والمقيد ، والله أعلم .
الفرع الثالث
والستون
: أقول :- في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال :- حدثنا الصادق المصدوق صلى الله
عليه وسلم "إن خَلْق أَحدِكم يُجْمَعُ في بطنِ أُمِّهِ أربعين يوما، ثم يكون
عَلَقة مثل ذلك ، ثم يكون مَضْغَة مثل ذلك ،ثم يَبّعَثُ الله إليه مَلَكا بأربع
كلمات: بكَتّب رزقهِ وأجلهِ وعملهِ وشَقي
أو سعيد ،ثم يَنّفُخُ فيه الروحَ ، فوالذي لا إله غيره ، إنَّ أحدَكم ليعمل بعمل
أهل الجنة ،حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل
أهل النار فيدخلها ،وإن أحدَكم لَيَعْمَل بعمل أهل النار حتى ما يكونُ بينَه
وبينها إلا ذراع ، فيسبقُ عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" أخرجه
البخاري ومسلم ، ولكن هناك رواية تعارضه ، وقد أورد الرواية ابن القيم رحمه الله
تعالى في طريق الهجرتين ، وبين وجه الجمع بينهما ، وكان الجمع بينهما على مقتضى
قاعدة الإطلاق والتقييد ، فقال رحمه الله تعالى (فإن قيل ما تقولون في قوله "إذا
مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها
وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم
يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك" وهذه بعض ألفاظ مسلم في
الحديث وهذا يوافق الرواية الأخرى يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم
بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أو سعيد ويوافق الرواية الأخرى إن
النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك وهذا يدل على أن تصويرها
عقيب الأربعين الأولى قيل لا ريب أن التصوير المحسوس وخلق الجلد والعظم واللحم
إنما يقع في الأربعين الثالثة ولا يقع عقيب الأولى هذا أمر معلوم بالضرورة فإما أن
يكون المراد بالأربعين في هذه الألفاظ الأربعين الثالثة وسمى المضغة فيها نطفة
اعتبارا بأول أحوالها وما كانت عليه أو يكون المراد بها الأربعين الأولى وسمى
كتابة تصويره وتقديره تخليقا اعتبارا بما يؤول فيكون قوله صورها وخلق سمعها وبصرها
أي قدر ذلك وكتبه وأعلم به ثم يفعله به بعد الأربعين الثالثة أو يكون المراد به أي
الأربعين الأولى وحقيقة التصوير فيها فيتعين حمله على تصوير خفي لا يدركه إحساس
البشر فإن النطفة إذا جاوزت الأربعين انتقلت علقة وحينئذ يكون أول مبدأ التخليق
فيكون مع هذا المبدأ مبدأ التصوير الخفي الذي لا يناله الحس ثم إذا مضت الأربعون
الثالثة صورت التصوير المحسوس المشاهد فأحد التقديرات الثلاثة يتعين ولا بد ولا
يجوز غير هذا البتة إذ العلقة لا سمع فيها ولا بصر ولا جلد ولا عظم وهذا التقدير
الثالث أليق بألفاظ الحديث وأشبه وأدل على القدر والله أعلم بمراد رسوله غير أنا
لا نشك أن التخليق المشاهد والتقسيم إلى الجلد والعظم واللحم إنما يكون بعد
الأربعين الثالثة والمقصود أن كتابة الشقاوة والسعادة وما هو لاق عند أول تخليقه
ويحتمل وجها رابعا وهو أن النطفة في الأربعين الأولى لا يتعرض إليها ولا يعتني
بشأنها فإذا جاوزتها وقعت في أطوار التخليق طورا بعد طور ووقع حينئذ التقدير والكتابة
فحديث ابن مسعود صريح بأن وقوع ذلك بعد الطور الثالث عند تمام كونها مضغة وحديث
حذيفة بن أسيد وغيره من الأحاديث المذكورة إنما فيه وقوع ذلك بعد الأربعين ولم
يوقت فيها البعدية بل أطلقها وقد قيدها ووقتها في حديث ابن مسعود والمطلق في مثل
هذا يحمل على المقيد بلا ريب فأخبر بما تكون النطفة بعد الطور الأول من تفاصيل
شأنها وتخليقها وما يقدر لها وعليها وذلك يقع في أوقات متعددة وكله بعد الأربعين
الأولى وبعضه متقدم على بعض كما أن كونها علقة يتقدم على كونها مضغة وكونها مضغة
متقدم على تصويرها والتصوير متقدم على نفخ الروح مع ذلك فيصح أن يقال إن النطفة
بعد الأربعين تكون علقة ومضغة ويصور خلقها وتركب فيها العظام والجلد ويشق لها
السمع والبصر وينفخ فيها الروح ويكتب شقاوتها وسعادتها وهذا لا يقتضي وقوع ذلك كله
عقيب الأربعين الأولى من غير فصل وهذا وجه حسن جدا ) والله أعلم .
الفرع الرابع
والستون
: قلت في الإفادة الشرعية في بيان الطرق التي يعرف يحل بها السحر عن المسحور وقد
ذكرت الطريقة الأولى ، ثم قلت (الثانية :- استخراج السحر من موضعه وإبطاله وهذا في
سحر العقد, فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما استخرج السحر من البئر ذهب ما به حتى
كأنما نشط من عقال, وظاهر هذا ذهاب أثر السحر بمجرد الإخراج إن شاء الله تعالى,
وإن تمم ذلك بحله مع قراءة المعوذتين فهو أفضل إن شاء الله تعالى فقد ورد في
الدلائل عند البيهقي أنهم لما استخرجوا سحر النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه
السلام بالمعوذتين فقال (( يا محمد {قل أعوذ برب الفلق} وحل عقدة { من شر ما خلق }
وحل عقدة, حتى فرغ منها ثم قال { قل أعوذ برب الناس } وحل عقدة, حتى فرغ من السورة
وحل العقد كلها )) وقد روى أحمد والطبراني في الكبير وابن أبي شيبة والنسائي في
الكبرى من حديث زيد بن أرقم حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم وفيه (( فبعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فاستخرجها فجاء بها فحللها )) وهذا
الحديث مطلق والذي قبله مقيد والمتقرر أن المطلق يحمل على المقيد) . والله أعلم .
الفرع الخامس
والستون
: قال الله تعالى في معرض إيجاب الزكاة في الخارج من الأرض ]
وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [
ولكنه جل وعلا أطلق هذا الحق ولم يقيده ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين
هذا الحق الواجب وقيد إطلاقه ، بقوله صلى الله عليه وسلم " فيما سقت السماء
أو كان عثريا العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر " والحديث متفق عليه ، وقال
عليه الصلاة والسلام " وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " فهذا من البيان
والتقييد ، فيصلح أن يمثل به على قاعدة الإطلاق والتقييد ، والله ربنا أعلى وأعلم
.
الفرع السادس
والستون
: اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكم الروث ، فمن أهل العلم رحمهم الله
تعالى من قال :- بأن الروث كله نجس ، ومنهم من قال بأن الروث يختلف حكمه باختلاف
الحيوان الذي أخرجه ، فأما الحيوان الذي لا يؤكل لحمه فروثه نجس ، وأما ما يؤكل
لحمه فروثه طاهر ، وهذا القول هو الحق الصحيح في هذه المسألة ، وهو الذي عليه
الأكثر ، بل حكي إجماعا للصحابة رضي الله عنهم ، والذي نريده هنا هو أن من قال :-
بأن الروث كله نجس قد استدل بحديث ابن
مسعود رضي الله عنه قال :- أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أن آتيه
بثلاثة أحجار ، فوجدت حجرين ، ولم أجد ثالثا ، فأتيته بروثة ، فأخذ الحجرين وألقى
الروثة وقال " هذا ركس " رواه
البخاري ، والمعروف في العربية أن الركس هو النحس ، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم
على الروثة بأنها نجس ، وهذا فيه بيان حكم الروث كله ، قلت :- وهذا فيه نظر ، وذلك
لأن قوله " فأتيته بروثة " هو مطلق هنا ، ومن قال بأن الروث كله نجس
إنما استدل بهذا الإطلاق ، وقد روى ابن خزيمة رحمه الله تعالى هذا الحديث وساقه
بلفظ " وهي روثة حمار " فبين ابن مسعود أن الروثة التي جاء بها إلى
النبي صلى الله عليه وسلم أنها روثة حمار ، وهذا مقيد ورواية البخاري مطلقة ، وقد تقرر في القواعد أن
المطلق يحمل على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، ولابن تيمية رحمه الله تعالى
في هذه المسألة كلام طيب ، أظن أنني نقلته في كتابي فقه الدليل والتعليل والتأصيل
، والله أعلم .
الفرع السابع
والستون
: اعلم أرشدك الله تعالى لطاعته أن الزوج إن طلق زوجته وأراد أن يرتجعها في أثناء
عدتها في الطلاق الرجعي ، فإن هذا من جملة حقوقه ، لكن لا بد وأن تعلم أن الرجعة
من جملة حقوقه إن كان يقصد بها الإصلاح لا المضارة ، فكون الرجعة من حقوقه ، هذا
ليس على إطلاقه ، بل هو مقيد بإرادة الإصلاح ، وعليه :- فمن كان قصده من مراجعته
المضارة والإيذاء فرجعته باطلة ، والواجب أن لا يمكن منها ، لا سيما إن بدا من
ظاهر حاله وفلتات لسانه إنه لا يريد بها إلا المضارة ، لا غير ، وعلى ذلك قوله
تعالى في بيان حق الرجعة وقيده ] وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ
إِصْلاَحًا [ فلا تغفل عن هذا
القيد ، لأن المطلق يبنى على المقيد ، والله أعلم .
الفرع الثامن
والستون
: لقد ورد في السنة بعد الجمعة حديثان :- حديث ابن عمر ، وهو يقضي أن السنة بعد
الجمعة ركعتان ، وحديث أبي هريرة ، وهو يقضي بأنها أربع ، وقد جمع بينهما ابن
تيمية رحمه الله تعالى بأن حديث ابن عمر في إثبات الركعتين إنما ذلك إن صلاها في
البيت ، لأنه قال " وركعتين بعد الجمعة في بيته " وما ورد من الروايات
في هذا الحديث على وجه الإطلاق فإنه لا بد وأن يحمل على هذا القيد ، وأما حديث
الأربع فيحمل على ما إذا صلى السنة في المسجد وهو جمع حسن ، ومبناه على قاعدة التقييد
والإطلاق ، والله أعلم .
الفرع التاسع
والستون
: اعلم رحمك الله تعالى أن الشريعة ندبت إلى زيارة القبور ، والأحاديث فيها كثيرة
، قال النبي صلى الله عليه وسلم " فزوروا القبور فإنه تذكركم الآخرة "
وعلم أمته كيف تقول إن زار الواحد منهم القبور ، وكان هو صلى الله عليه وسلم كثيرا
ما يزور مقبرة البقيع ولكن يا أخي لا بد
وأن تعلم أن هذه الأحاديث التي وردت في زيارة القبور إنما وردت على وجه الإطلاق ،
وقد ورد ما يقيدها بعدم شد الرحال إليها ، فالقبور البعيدة عن الإنسان ، والتي لا
يقدر أن يصلها إلا بعد أن يقطع مسافة تسمى سفرا ، فإن زيارة هذه القبور في حقه لا
تجوز ، أيا كان نوع هذا القبر وأيا كان الميت ، والله العظيم يا أخي إن هذا هو
الحق ، ولا يغرنك أهل البدع بما يتفوهون به على أهل الاتباع من أنهم لا يعرفون
لأولياء الله قدرهم ولا ينزلونهم منازلهم ، فوالله العظيم إن هذا الكلام كله كذب
وجور وباطل ، بل هو من وحي الشيطان لهم حتى يعادوا أهل الحق ويكرهوا أهل السنة ،
فإن كان القبر بعيدا بينك وبينه مسافة تقصر فيها الصلاة فاحذر من شد الرحل له ،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن شد الرحال إلا للبقاع الثلاث المفضلة ،
فقال عليه الصلاة والسلام " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام
والمسجد الأقصى ومسجدي هذا " والحديث ورد من وجوه كثيرة ، فأحاديث الزيارة
وردت مطلقة ، وهذا الحديث يقيد المنع بما زاد يلزم منه شد الرحل ، والمتقرر عند
أهل العلم رحمهم الله تعالى أنه لا بد وأن يحمل المطلق على المقيد إن اتفقا في
الحكم والسبب كما هو الحال هنا ، قال صحاب الكشف المبدي (وقد أذن لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور؛ بحديث «كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور ألا
فزوروها» وهو في الصّحيح ، وخرج لزيارة الموتى ودعا لهم، وعلّمنا كيف نقول إذا نحن
زرناهم؛ وكان يقول «السّلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنّا بكم إن شاء الله
لاحقون، وأتاكم ما تُوعدون، نسأل الله لنا ولكم العافية» وهو أيضا في الصّحيح
بألفاظ وطرق ؛ فلم يفعل هذا الزّائر إلَّا ما هو مأذون به ومشروع، لكن بشرط أن لا
يشدّ راحلته، ولا يعزم على سفر ولا يرحل؛ كما ورد تقييد الإذن بالزّيارة للقبور
بحديث: «لا تُشَدّ الرّحال إلَّا لثلاثة ...» وهو مُقيّد لمطلق الزّيارة ) والله
أعلم .
الفرع الموفي
للسبعين
: في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه
وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل " إن الله كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك فمن هم
بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة ، فإن هو هم بها فعملها
كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، ومن هم بسيئة فلم
يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله عنده سيئة
واحدة " متفق عليه ، وأنت تعرف هذا الحديث ولا شك ، ولكن الذي أريد أن أبينه
لك هنا هو أن قوله صلى الله عليه وسلم "ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله
عنده حسنة كاملة " اعلم رحمك الله تعالى أن المانع له هنا قد ورد بيانه
وتقييده في الرواية الأخرى ، وهو أن المانع له من عمل السيئة إنما هو الخوف من
الله تعالى لا غيره ، لا لأنه لم يقدر عليها ، أو لم تتحقق له أسباب فعلها ، أو
خاف من المخلوقين أو الشرطة مثلا ، لا ، بل ما تركها إلا من أجل الله تعالى ، وذلك
في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي "فإن تركها من أجلي فاكتبوها له
حسنة " وفي الحديث الآخر " فإنما تركها من جرائي " أي من أجلي
وخوفا مني ، وهذا اللفظ مقيد ،والأول مطلق ، والمتقرر في القواعد أن المطلق لا بد
وأن يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله أعلم .
الفرع الحادي
والسبعون
: لقد ذكرت لك فيما مضى حديث ابن مسعود رضي الله عنه من قوله حدثنا الصادق المصدوق
... وفيه " وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينه إلا ذراع
فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها " وهذا الحديث قد أخاف
القلوب وأزعج النفوس ، وجعلها في خوف ورهبة من سوء الخاتمة ، وإنه والله العظيم
لتعلوا القلب رهبة وخوف عند روايته وذكره ، وقد صار لبعض الناس فتنة والعياذ بالله
تعالى ، وقالوا :- كيف يعمل بعمل أهل الجنة في حياته كلها ، ثم لا يوفق لحسن
الخاتمة ، مع أن سنة الكريم جل وعلا قد جرت على أن الإنسان يموت على ما عاش عليه ،
ويبعث على ما مات عليه ، وهذا اعتراض لا يجوز للعبد التفوه به ، ولا أن يقوم في
قلبه أدنى مسكة شك في عدل الله تعالى وكمال فضله على عباده والذي يخفف من وطأة الألم على مثل هؤلاء هو أن
الحديث ورد بالإطلاق ، ولكن وردت أحاديث أخرى تبين المراد منه وهي مقيدة ، ولا بد
من حمل مطلقه على مقيده حتى يستقيم الأمر ويزول الإشكال ، فمن ذلك قوله صلى الله
عليه وسلم " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَملَ أهل الجنَّةِ فيما يبدو للناس
وهو من أهل النار ، وإِنَّ الرجل ليعملُ عملَ أهل النار فيما يبدو للناس ، وهو من
أهل الجنة» قال الشيخ محمد عطية سالم رحمه الله تعالى (فهنا يأتي التساؤل: كيف
يعمل بعمل أهل الجنة ولم يبق بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، ما ذنبه؟
وماذا فعل؟ يجيب عن ذلك العلماء ويقولون: نعم، جاء في بعض الروايات ( وإن أحدكم
ليعمل بعمل أهل الجنة في الظاهر ) أما الخفي والنية الخفية فلا يعلمها إلا الله،
ولقد وجدنا قضية كبرى بينها سبحانه في قضية إبليس مع آدم والملائكة لما قال سبحانه
للملائكة ] إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [ يقول العلماء
(إني أعلم ما لا تعلمون) ما ظهر من موقف إبليس، حيث كان في ظاهر الأمر يعبد الله،
وكان في الأرض من أشد خلق الله عبادة حتى رفع إلى مصاف الملائكة بعد أن قاتل الحن
والبن ومن كان قبلهم، فلما وجد آدم ورآه تعاظم في نفسه واستنكر خلقته، ثم كان
يستهزئ به، فلما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم أظهر ما كان خفياً وقال: أنا
خير منه، فقدم قياسه ونظرته الفاسدة لنفسه على أمر الله له ]
اسْجُدُوا لِآدَمَ [ ومن هنا كان
يظهر عمله مع الملائكة، وكان يخفي استهزاءه وتكبره على آدم الذي خلقه الله
بيديه.إذاً: منكم من يعمل بعمل أهل الجنة، وإذا أخذنا في الاعتبار رواية في ظاهر
الأمر، يكون كثير من الناس يعملون عملاً خيراً لكنه في الظاهر، وقلوبهم وبواطن
أمورهم لا يعلمها إلا الله، ويكون القسم الثاني يعمل بعمل أهل النار، ولكن نبتة
الإيمان في قلبه رطبة، وحسن اعتقاده بربه قوي، وأمله في الله ورجاؤه لا زال حياً،
فهو على هذا الرجاء، وعلى ذاك الإيمان عندما يريد الله له الخير، ويتوجه بوجهته
إلى الخير يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وهناك يدخل الجنة ويسبق بسبق الكتاب إليه)
قلت :- فبان لك أن عمله بعمل أهل الجنة، إنما هو
فيما يظهر للناس، وفي قلبه من النوايا الفاسدة ما الله به عليم ، لكننا
نعلم على اليقين أن الله جل وعلا حَكَمٌ عَدْل، لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس
أنفسهم يظلمون ، قال النووي رحمه الله تعالى (والمراد بهذا الحديث أن هذا قد يقع
في نادر من الناس لا أنه غالب فيهم ثم إنه من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلاب
الناس من الشر إلى الخير في كثرة وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور
ونهاية القلة) وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى (هذا الحديث الأول حديث
ابن مسعود رضي الله عنه يخبر فيه النبي عليه الصلاة والسلام أن الرجل يعمل بعمل
أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها ذراع لقرب أجله وموته ثم يسبق عليه الكتاب.
الكتاب الأول الذي كتب فيه أنه من أهل النار فيعمل بعمل أهل النار والعياذ بالله
فيدخلها وهذا فيما يبدو للناس ويظهر كما جاء في الحديث الصحيح (إن الرجل ليعمل
بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار) نسأل الله العافية وكذلك الأمر
بالنسبة للثاني يعمل الإنسان بعمل أهل النار فيمن الله عليه بالتوبة والرجوع إلى
الله تعالى عند قرب أجله فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها) فلعل الحديث قد اتضح لك
وجهه إن شاء الله تعالى ، على أنه قيل أصلا إن قوله ( فوالله الذي لا إله غيره ...
إلخ ) ليس هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو من كلام ابن مسعود رضي
الله تعالى عنه ، وأقول :- حتى ولو كان من كلام ابن مسعود فإنه يبعث على الخوف
العظيم من سوء الخاتمة ، والله أعلم .
الفرع الثاني
والسبعون
: قال الله تعالى عن قوم يونس عليه السلام ]
إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ
عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [ وقد اختلف المفسرون :- هل كشف الله تعالى عنهم عذاب الدنيا فقط ،
أو عذاب الدنيا والآخرة ؟ قال ابن كثير رحمه الله تعالى ( واختلف المفسرون: هل
كُشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي؟ أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط؟ على قولين،
أحدهما: إنما كان ذلك في الحياة الدنيا، كما هو مقيد في هذه الآية. والقول الثاني
فيهما لقوله تعالى ]
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ
إِلَى حِينٍ [ فأطلق عليهم
الإيمان، والإيمان منقذ من العذاب الأخروي، وهذا هو الظاهر، والله أعلم ) قلت :-
وهو كما قال رحمه الله تعالى ، فإن قلت :- ولماذا لم تبن المطلق على المقيد هنا ؟
فأقول :- لأن النجاة في الآخرة ليست معلقة بكشف العذاب عن صاحبه في الدنيا ، بل هي
معلقة بوصف الإيمان ، وقد أثبت الله تعالى لهم الإيمان ، فيكون العذاب الدنيوي قد
كشف عنهم بالتوبة النصوح ، والعذاب الأخروي قد كشف عنهم لوجود وصف الإيمان ، والله
أعلم .
الفرع الثالث
والسبعون
: لقد قرر أهل السنة رحمهم الله تعالى أن الواجب على العبد أن يدافع الصائل على
نفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ولكن قيدوا هذا بما لم تكن ثمة فتنة بين المسلمين فإن كان ثم فتنة فالأسلم للعبد أن لا يدافع ،
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل
المظلم يصبح فيها الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، القاعد
فيها خير من القائم ، والماشي فيها خير من الساعي ، فكسروا قسيكم ، وقطعوا أوتاركم
، واضربوا سيوفكم بالحجارة ، فإن دخل على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم "
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل
المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، القاعد
فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من
الساعي" قالوا : فما تأمرنا ؟ قال " كونوا أحلاس بيوتكم " وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "
إنها ستكون فتن ، ألا ثم تكون ( فتن ) ، ( ألا ثم تكن فتن ) ، القاعد فيها خير من
الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي إليها ، ألا فإذا نزلت - أو وقعت - فمن كان
له إبل فليلحق بإبله ، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ، ومن كانت له أرض فليلحق
بأرضه " قال : فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا
أرض . قال " يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء ،
اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت " قال : فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن
أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين - أو إحدى الفئتين - فضربني رجل بسيفه ، أو
يجيء سهم فيقتلني . قال "يبوء بإثمه ، وإثمك ، ويكون من أصحاب النار"
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال :- قلت : يا رسول الله ، أفلا آخذ سيفي
وأضعه على عاتقي . قال " شاركت القوم إذا " قال : قلت : فما تأمرني ؟ قال " تلزم بيتك
" قلت : فإن دخل علي بيتي ؟ قال " فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق
ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه " وقال عليه الصلاة والسلام " تكون فتنة
القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي
، والساعي في النار فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل
" فوجوب الدفاع عن النفس إنما هو مطلق وقيدته تلك الأحاديث الواردة في شأن
الفتن ، نعوذ بالله تعالى من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وقد تقرر عند العلماء أن
المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله أعلم .
الفرع الرابع
والسبعون
: اعلم رحمك الله تعالى أن الأحاديث الواردة في فضل العزلة لا يجوز أخذها على
إطلاقها ، بل هي مقيدة بانتشار الفتن وعدم القدرة على معالجة الوضع ، مع وجود
الخوف من الوقوع فيها ، قال في عون المعبود في شرح بعض الأحاديث الواردة في فضل
العزلة (وفيه فضل العزلة لما فيها من السلامة من الغيبة واللغو ونحوهما وهو مقيد
بوقوع الفتنة أما عند عدم الفتنة فمذهب الجمهور أن الاختلاط أفضل) وقال الشيخ محمد
بن عثيمين رحمه الله تعالى (إن الخلطة مع الناس أفضل من العزلة ما لم يخش الإنسان
على دينه , فإن خشي على دينه فالعزلة أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " يوشك أن
يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر " ) والله تعالى
أعلم
الفرع الخامس
والسبعون
: اعلم رحمك الله تعالى أن الأدلة الواردة في فضل الشفاعة ، لا بد وأن تقيد بما
ورد من التشديد في الشفاعة في الحد بعد رفعها للسلطان ، كما قال عليه الصلاة
والسلام لأسامة " أتشفع في حد من حدود الله " قال في عون المعبود ( وفي
الحديث منع الشفاعة في الحدود وهو مقيد بما إذا رفع إلى السلطان ، وعند الدارقطني
من حديث الزبير مرفوعا "اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي فإذا وصل إلى الوالي
فعفا فلا عفا الله عنه " قال بن عبد البر لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب
حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان وأن على السلطان إذا بلغته أن يقيمها) فالمطلق في
أحاديث الشفاعة مقيد بمنع الشفاعة في الحدود إن بلغت السلطان ، والله أعلم .
الفرع السادس
والسبعون
: القول الصحيح أن الاشتراط في الحج لا ينبغي للحاج أخذه على إطلاقه ، بل لا بد وأن
يقيد بأصحاب الأعذار الذين يخافون المانع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حج
معه الجمع الكثير والكم الكثير ولم يثبت أنه قال لأحد منهم ( اشترط ) إلا لضباعة
بنت الزبير فقط ، وما ذاك إلا لأنها كانت شاكية ، أي مريضة ، فقال لها النبي صلى
الله عليه وسلم "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني" أو كما قال عليه
الصلاة والسلام ، وهذا اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ، فالرخصة في
الاشتراط في الحج ليست لكل أحد ، بل هي في حق من خاف المانع من مرض أو عدو ونحوهما
، والله أعلم .
الفرع السابع
والسبعون
: الحق أن الأدلة الواردة في شأن الأمر بالعدل بين الزوجات ، ليس على إطلاقها ، بل
إنما يراد بها العدل في الظاهر فقط ، وأما في الميل القلبي والمحبة الباطنية فإنه
لا يجب فيه العدل ، وعليه يحمل قوله تعالى ]
وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ
حَرَصْتُمْ [ ويروى في
الحديث " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك "
ولكن فيه ضعف ، بل لقد قرر الفقهاء رحمهم الله تعالى أن العدل ليس بواجب في الجماع
لأن مبناه على الرغبة ، فيجوز للزوج أن يجامع من ليست هي صاحبة الليلة ، وقد كان
النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يطوف على نسائه كلهن في الليلة الواحدة ، والمهم
أن الأدلة الواردة بالأمر بالعدل مطلقة ، ولا بد من تقييدها بالعدل الظاهري
فقط، والله أعلم .
الفرع الثامن
والسبعون
: قال أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة (الدعاء مخ العبادة فسؤال العبد ربه لنفسه أو
لغيره وإعلانه ضراعته وعبوديته لمولاه حينما يطلب حاجته منه رغّب فيه سبحانه في
كتابه العزيز فقال ] وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ وقال ]
ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً { وسنَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله
وفعله والأصل فيه الإطلاق حتى يثبت تقييده بوقت أو الترغيب في الإكثار منه في حال
أو في وقت معين كحال السجود في الصلاة أو آخر الليل فيحرص المسلم على الإتيان به
على ما بينته النصوص من إطلاق وتقييد. وقد ثبت في أحاديث صلاة الجنازة الدعاء
للميت وثبت الدعاء له بالاستغفار عند الفراغ من دفنه فقد كان رسول، صلى الله عليه
وسلم، إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال ((استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت
فإنَّه الآن يسأل)) رواه أبو داود من طريق عثمان بن عفان في كتاب الجنائز من سننه،
وثبت الدعاء عند زيارة قبره وكان رسول الله، صلى الله عليه يزور القبور ويدعو
لأهلها ويعلّم أصحابه دعاء زيارة القبور كما يعلمهم السورة من القرآن ولم يثبت عن
النبي، صلى الله عليه وسلم، الدعاء بعد صلاة الجنازة ولم يكن هذا من سنته ولا سنة
أصحابه ولو حصل ذلك منه أو منهم لنقل كما نقل الدعاء له في الصلاة عليه وعند زيارته
وبعد الفراغ من دفنه وعلى ذلك يكون اعتماد الدعاء للميت أو لغيره بعد الفراغ من
صلاة الجنازة بدعة، لا يليق بالمسلم أن يفعلها لحديث ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي وإياكم ومحدثات الأمور... )) الخ رواه أصحاب السنن من طريق
العرباض بن سارية ) والله أعلم .
الفرع التاسع والسبعون : وسئل أصحاب
الفضيلة في اللجة أيضا بما نصه:- ما حكم الدعاء بصورة جماعية بعد قراءة القرآن
مباشرة ، يدعو شخص والباقون يؤمنون على دعائه وهكذا في كل درس بدون انقطاع وعند
تذكيرهم ومطالبتهم بالدليل استدلوا بقوله تعالى ]
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [؟ فأجابوا رحمهم الله تعالى بقولهم ( الأصل في الأذكار والعبادات
التوقيف وألا يعبد الله إلا بما شرع وكذلك إطلاقها أو توقيتها وبيان كيفياتها
وتحديد عددها فيما شرعه الله من الأذكار والأدعية وسائر العبادات مطلقا عن التقييد
بوقت أو عدد أو مكان أو كيفية لا يجوز لنا أن نلتزم فيه بكيفية أو وقت أو عدد بل
نعبده به مطلقاً كما ورد . وما ثبت بالأدلة القولية أو العملية تقييده بوقت أو عدد
أو تحديد مكان له أو كيفية ، عبدنا الله به على ما ثبت من الشرع له ، ولم يثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلاً
أو تقريراً الدعاء الجماعي عقب الصلوات أو قراءة القرآن مباشرة أو عقب كل درس ،
سواء كان ذلك بدعاء الإمام وتأمين المأمومين على دعائه أو كان بدعائهم كلهم جماعة
ولم يعرف ذلك أيضاً عن الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة رضي الله عنهم فمن التزم
بالدعاء الجماعي عقب الصلوات أو بعد كل قراءة للقرآن أو بعد كل درس فقد ابتدع في
الدين وأحدث فيه ماليس منه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من
عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وقال " من أحدث في أمرنا ما ليس منه
فهو رد " وأما الاستدلال من ذكرتم فأبوا بقوله تعالى ]
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ الآية فلا حجة لهم في ذلك لأنه استدلال بنص مطلق
ليس فيه تعيين بالكيفية التي التزمها من سألت عن دعائهم والمطلق ينبغي أن يراعي في
العمل به إطلاقه دون التزام بحالة خاصة ولو كان التزام كيفية معينة مشروعا لحافظ
عليها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده وقد تقدم أنه لم يثبت ذلك عنه ولا
عن أصحابه رضي الله عنه والخير كل الخير في اتباع هديه صلى الله عليه وسلم وهدي
خلفائه الراشدين رضي الله عنهم ، والشر كل الشر في مخالفة هديتهم واتباع المحدثات
التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله " إياكم ومحدثات الأمور فإن
كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " )
الفرع الموفي
للثمانين
: أقول :- القول الصحيح أنه لا مانع من أن يتزوج الزاني ممن زنا بها إذا تابا إلى
الله تعالى، أما بدون توبة فلا يجوز، وهذا مذهب الإمام أحمد ومن وافقه، قال ابن
كثير في تفسير قوله تعالى ] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً {
ومن ها هنا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح العقد من الرجل
العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب فإن تابت صح العقد عليها وإلا
فلا، وكذلك لا يصح تزوج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة
صحيحة, فالأمر إذن ليس على إطلاقه، بل هو مقيد بالزانية التي لم تتب، هذا هو رأي
الإمام أحمد وهو مبني على تفسير الآية ] وَحُرِّمَ
ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [ أي حرم الزنا،
وحُرم الزواج بالزانية كذلك حتى تتوب، وأما جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة
أبو حنيفة ومالك والشافعي فقد ذهبوا إلى جواز نكاح الزانية ولو لم تتب، وهذا بناء
على تفسير الآية، بأنها إخبار من الله تعالى بحال الزانيين، قال ابن كثير ( هذا
خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده
من الزنا إلا زانية عاصية، أو مشركة لا ترى حرمة ذلك )والراجح والله أعلم هو ما
ذهب إليه الإمام أحمد ومن وافقه، وهو الذي رجحه ابن تيمية رحمه الله قال ( نكاح
الزانية حرام حتى تتوب، سواء كان زنى بها هو أو غيره، هذا هو الصواب بلا ريب )
والله أعلم .
الفرع الحادي
والثمانون
: قال الله تعالى ] وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [
فأمر هنا بإعطاء اليتيم ماله من غير قيد ، ولكنه قيده في الآية الأخرى بثلاثة أمور
, الأول :- البلوغ ، الثاني :- الرشد ، الثالث:- الابتلاء والاختبار ، وهذه القيود
ذكرها الله تعالى في قوله عز وجل ] وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى [
وهذا هو الاختبار ، وذلك بأن يعطى مبلغا من المال ويراقب كيف سيتصرف فيه ، ثم قال
تعالى ] حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ [
أي بلغوا ، فعبر عن البلوغ بالنكاح ، ثم قال ]
فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا [
وهذا هو الشرط الثالث ، ورتب على هذه القيود قوله ]
فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [ وهذا يفيد أنه لا يدفع له ماله إلا بالبلوغ والرشد والاختبار ،
وهذه القيود الثلاثة يقيد بها إطلاق الآية في قوله تعالى ]
وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [ لأن المتقرر أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب
، والله أعلم .
الفرع الثاني
والثمانون
: اعلم رحمك الله تعالى ووفقك للهدى والرشاد أن الأدلة الواردة في فضل حملة القرآن
وعظم الثواب في ذلك إنما هو في حق من عمل به ، فلا بد أن تقيد تلك الفضائل بمن
يعمل به ، وأما من يقرأ القرآن ولا يعمل به فإنه لا يستحق من هذا الفضل شيئا ، بل
لا يستحق إلا اللوم والعقوبة ، قال ابن عجيبة في البحر المديد ( كل ما ورد في فضل
أهل القرآن ، فالمراد به في حق مَن عَمِلَ به ، وأخلص في قراءته ، وحافظ على حدوده
، ورعاه حق رعايته . وقد ورد فيمن لم يعمل به ، أو قرأه لغير الله ، وعيد كبير ،
وورد أنهم أول مَن يدخل جهنم . قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي ، بعد ذكر الحديثين في
فضل حامل القرآن : وهذا مقيد بالعمل ، أي : فإنَّ منزلتك عند آخر آية مما عملتَ ،
لا مما تلوتَ وخالفتَ بعملك؛ لأنه لو كان كذلك لانخرقت أصول الدين ، ويؤدي إلى أن
مَن حفظ سرد القرآن اليوم ، يكون أفضل من كثير من الصحابة الأخيار ، والصالحين
الأبرار؛ فإن كثيراً من خيارهم مات قبل حفظ جميعه ) والله أعلم .
الفرع الثالث
والثمانون
:- اعلم رحمك الله تعالى أن الأدلة الواردة في شأن إجابة الله تعالى لدعاء الداعين
مقيدة بعدم الاعتداء في الدعاء ، كما قال تعالى ]
ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ [ وقد نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن الاعتداء في الطهور والدعاء ، ومن الاعتداء في الدعاء أن
يسأل الله تعالى أمرا محرما لا يجوز اقترافه ، ومنه :- أن يسأل ما ليس له كمنزلة
في الجنة فوق منزلة الأنبياء ، ومنه:- المبالغة في الدعاء على الظالم ، ومنه :-
التفصيل الزائد في الدعاء مما لم يرد به النص ، كقول القائل :- اللهم أسألك القصر
الأبيض عن يمين الداخل إلى الجنة ، وهذا لا يجوز ، بل هو عين الاعتداء في الدعاء ،
ومنه :- أن يدعو بالهلاك والويل على من لا يستحق ، قال أبو العباس ابن تيمية رحمه
الله تعالى ( فالدعوة التي ليس فيها اعتداء يحصل بها المطلوب بها أو مثله وهذا
غاية الإجابة فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعا أو مفسدا للداعي أو لغيره والداعي
جاهل لا يعلم ما فيه المفسدة عليه والرب قريب مجيب وهو أرحم بعباده من الوالدة
بولدها والكريم الرحيم إذا سئل شيئا بعينه وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه أعطاه
نظيره كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له فإنه يعطيه من ماله نظيره ولله
المثل الأعلى ) وقال رحمه الله تعالى (وَيَحْرُمُ الِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى ] إنَّهُ لَا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [ وَقَدْ
يَكُونُ الِاعْتِدَاءُ فِي نَفْسِ الطَّلَبِ وَقَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ
الْمَطْلُوبِ ) والمهم أن الأدلة المطلقة في إجابة الدعوات ، لا بد وأن تقيد بعدم
الاعتداء في الدعاء ، لأن المتقرر أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم ،
والله أعلم .
الفرع الرابع
والثمانون
: قال السيوطي في تعليقه على صحيح مسلم (قوله " ما من غازية " أي جماعة
أو سرية " تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم "
ويكون الأجر المرتب على الغزو منه ما هو على القتال ومنه ما يسقط مقابلة السلامة
والغنيمة ، وقد استشكل جماعة هذا وقالوا إنه معارض بالحديث السابق أنه يرجع بما
نال من أجر أو غنيمة وبأن أهل بدر اجتمع لهم سهمهم وأجرهم وبالغوا في ذلك حتى أن
منهم من رد هذا الحديث وضعفه وقال إن راويه أبا هانئ مجهول وما قالوه ساقط والحديث
قد صححه مسلم وأبو هانئ ذكره البخاري في تاريخه بما يزيل جهالته والحديث السابق لا
يعارض هذا لأنه مطلق وهذا مقيد فوجب حمله عليه قاله النووي تخفق أي تخيب ولا تغنم
وكل من طلب حاجة ولم تحصل له فقد أخفق) وما قاله صحيح . والله أعلم .
الفرع الخامس
والثمانون
: لا جرم أن الشريعة قد أمرت بالعفو أمر ندب واستحباب ، ورتبت عليه الثواب الجزيل
والأجر العظيم والمنازل العالية في الجنة ، ولكن هذا العفو لا بد وأن يقيد بالعفو
الذي تتحقق منه المصلحة وتندفع به المفسدة ، فإن العفو فضل ، فلا بد وأن ينظر في
تحقيقه للمصالح ، فالعفو عن القاتل والعفو عن القاذف والعفو عن السارق فبل ارتفاع
الحد للسلطان والعفو عن المخطئ وإن كان
فيه من الأجور والفضائل ما فيه إلا أنه لا بد وأن ينظر فيه من ناحية تحقيقه
للمصالح ودفعه للمفاسد ، وهذا قيد مهم في العفو ، ولذلك اختار الشيخ تقي الدين، أن
العفو لا يصح في قتل الغيلة لتعذر الاحتراز كالقتل مكابرة ، وقال الشيخ تقي الدين (
استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل، لكن هذا
الإحسان لا يكون إحسانا إلا بعد العدل، وهو ألا يحصل بالعفو ضرر، فإذا حصل به ضرر
كان ظلما من العافي إما لنفسه وإما لغيره فلا يشرع ) والله أعلم .
الفرع السادس
والثمانون : من المعلوم أن من القواعد الخمس الفقهية الكبرى قاعدة
(الضرر يزال) وهذه القاعدة ليس على إطلاقها ، بل فيها من القيود مما ورد به الدليل ما لا بد من فهمه ، فمن ذلك :- أنها
لا بد وأن تقيد بعدم إزالة الضرر بمثله ، فالمتقرر عند العلماء رحمهم الله تعالى
أن الضرر لا يزال بالضرر ، وهذا قيد فيه لا بد من مراعاته حتى تفهم القاعدة على
وجهها الصحيح ومن ذلك :- تقييدها بأن لا
يزال الضرر بأكبر منه ، فالمتقرر عند
العلماء رحمهم الله تعالى أن الضرر الأخف لا يزال بالضرر الأشد ، وأنه إن
تعارض ضرران روعي أعلاهما بارتكاب أدناهما ومن ذلك :- تقييدها بالإمكان والقدرة ، فلو لم
نقدر على إزالة الضرر كله فالقاعدة لا تسقط بل يزال الضرر بحسب القدرة ، فزوال بعضه خير من
بقائه كله ، وكما قيل في القواعد :- ما لا يدرك كله لا يترك جله ، والمتقرر عند
الفقهاء رحمهم الله تعالى :- أن الضرر يدفع بقدر الإمكان فهذه القيود لا بد من مراعاتها حتى يكون تطبيقك
للقاعدة تطبيقا سليما ، فما ورد مطلقا من أدلة رفع الضرر ، فإنه لا بد وأن يقيد
بتلك القيود ، لأن المتقرر أن المطلق يبنى على المقيد ، والله أعلم .
الفرع السابع والثمانون : قال في
الشرح الكبير وهو يتكلم عن زكاة البقر ( وإنما تجب الزكاة فيها إذا كانت سائمة
وحكي عن مالك في العوامل والمعلوفة زكاة كقوله في الإبل لعموم الخبر. (ولنا) ما روى
عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس في
العوامل صدقة " رواه الدار قطني.وعن علي رضي الله عنه قال الراوي أحسبه عن
النبي صلى الله عليه وسلم في صدقة البقر قال " وليس في العوامل شيء "
رواه أبو داود.وهذا مقيد يحمل عليه المطلق ولأنه قول علي ومعاذ وجابر ولان صفة
النماء معتبرة في الزكاة وإنما توجد في السائمة ) .
الفرع الثامن
والثمانون
: قال تعالى ] مَنْ كَانَ
يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ
فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ [ يخبر سبحانه
وتعالى في هاتين الآيتين أن من قصد بعمله الحصول على مطامع الدنيا فقط فإن الله
يوفر له ثواب عمله في الدنيا بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد ، وهذا مقيد
بالمشيئة كما في قوله تعالى ] مَنْ كَانَ
يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [ الآية وهؤلاء ليس لهم في الآخرة إلا النار ، لأنهم لم يعملوا ما
يخلصهم أما أعمالهم التي عملوها فإنها باطلة لا ثواب لها ؛ لأنهم لم يريدوا بها
الآخرة .قال قتادة ) يقول تعالى : من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته
في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء ، وأما المؤمن فيجازى
بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة ) والله أعلم .
الفرع التاسع والثمانون : قلت في
القول الرشيد ( أقول : من المسائل
العظيمة المهمة في باب التوحيد وغيرها من أبواب الدين مسألة قيام الحجة .متى
تقوم الحجة ، هل ببلوغ الدليل ، أم لا بد مع البلوغ فهمه ؟ هما قولان لأهل العلم
فقال بعضهم : إن مجرد البلوغ كافٍ في قيامها ، فمن بلغه الكتاب والسنة قامت الحجة
عليه ، سواءً فهمها أم لم يفهمها ، وأشهر من نقل عنه هذا القول الشيخ الإمام
المجدد محمد بن عبدالوهاب وأحفاده وتلاميذه رحمهم الله تعالى ، وسوف ترى أن هذا
النقل فيه شيء من القصور وسوء الفهم لكلام الشيخ أو أن من نقل عنه ذلك إنما اعتمد
على نصٍ واحد من كلام الشيخ وترك بقية نصوصه في هذه المسألة ، وهذا يقع فيه الكثير
، فإن كلام العالم قد يكون مطلقًا في مكان ومقيدًا في مكانٍ آخر ، وعامًا في مكانٍ
وخاصًا في موضع آخر ، فإذا أردت أن تنسب لأحدٍ قولاً فلابد أن تقرأ كلامه وتجمعه
وتؤلف بينه حتى يتبين لك حقيقة قوله وأما
أن تنسب إليه القول بمجرد قراءة شيء من نصوصه فهذا عين الخطأ ، فكم من الأقوال
التي تنسب لبعض العلماء وهو منها براء ، وكل يحاسبه الله تعالى ، والمراد أن أصحاب
هذا القول استدلوا بعدة أدلة : الأول : قوله تعالى } وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم
به ومن بلغ { ووجه الاستشهاد منه أن الله
تعالى أوحى إلى نبيه e هذا القرآن لينذر به الناس وينذر به من بلغه هذا القرآن فكل من بلغه القرآن
فإنه قد قامت عليه النذارة بهذا البلاغ ولم يشترط الفهم وإنما اشترط البلوغ ، فمن
اشترط الفهم فإنه يكون بهذا مشترطًا لشيء زائد على ما في القرآن ، فلو كان الفهم
شرطًا في قيام الحجة لذكره ، فلما لم يذكره دل على أنه ليس بشيء . الثاني :
قوله تعالى } وجعلنا على قلوبهم أكنة أن
يفقهوه وفي آذانهم وقرًا { ومعنى } أن يفقهوه { أي حتى لا يفقهوه ، فبين الله
سبحانه وتعالى أنهم لم يفهموه فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا ، بل عذبهم على ذلك مع
تخلف الفهم فلو كان الفهم شرطًا كقيام الحجة لقالوا : ربنا لقد جعلت على قلوبنا
أكنة وجعلت في آذاننا وقرًا فلم نفهم كتابك ولم تعرف مراد كلامك فكيف تعذبنا مع
عدم فهمنا ، فلما لم يحتجوا بذلك وعذبهم دل على عدم اشتراط الفهم وإنما الشرط هو
البلاغ ، إذ لو كان في عدم فهمهم حجة لهم لما عذبهم ؛ لأنهم لا يستحقون
العذاب ، وتعذيب من لا يستحق العذاب ظلم ، والله منزه عن الظلم فلم يبق إلا أن
يقال إن الفهم ليس بشرط في قيام الحجة ، وهذا هو المطلوب . الثالث : قوله
تعالى } أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو
يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً { فأخبر - جل وعلا - أنهم لا
يسمعون سماع استجابة ولا يعقلون ما يقال لهم وأنهم كالأنعام بجامع عدم الفهم
، بل هم أشد من حال البهائم ، فإذا كانت البهائم لا تسمع ولا تعقل فهؤلاء أشد ،
ومع ذلك عذبهم ولم يعذرهم لعدم فهمهم ، مما يدل على أن الفهم ليس بشرط في قيام
الحجة وإنما المشترط البلاغ فقط ، والله أعلم . الرابع : قوله تعالى عن قوم
شعيب : } ما نفقه كثيرًا مما تقول { فأخبروا صراحة أنهم لا يفهمون
ما يقول شعيب عليه السلام ومع ذلك استحقوا العذاب واللعنة ، فلو كان الفهم شرطًا
لقيام الحجة لعذرهم الله تعالى ، فلما لم يعذرهم وعذبهم ، دل على أن الفهم ليس
بشرط في قيام الحجة وأن قيامها يكون بالبلوغ فقط ، والله أعلم . الخامس :
قوله تعالى } إن عليك إلا البلاغ والله بصير
بالعباد { وكذلك قوله تعالى } ما على الرسول إلا البلاغ { فأخبر الله سبحانه وتعالى مهمة
النبي e إنما هي البلاغ فقط ، ويستفاد ذلك من أسلوب الحصر ، أي ليس عليك هدايتهم
هداية التوفيق والإلهام ولا تفهيمهم ، والنبي e إنما أرسله الله تعالى لإقامة الحجة على العباد ، وليس عليه إلا البلاغ ،
فدل ذلك على أنه بالبلاغ فقط تقوم الحجة ، وليس للفهم ذكر ، فدل على أنه ليس بشرط
في قيامها ، والله أعلم . السادس : قوله تعالى } يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك
من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم
الكافرين { فأمره جل وعلا بإبلاغ ما أنزل
إليه منه وتوعده على عدم إبلاغه ذلك الناس
وليس فيه ذكر للفهم وإنما المأمور به إنما هو البلاغ فقط ، مما يدل
على أن الحجة تقوم به ولا يشترط فهم المبلغين لما بلغوا به ، والله أعلم . السابع
: قوله تعالى عن أهل النار } وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير { فأخبر تعالى عن حالهم في الدنيا
مع رسلهم وأنهم لم يعقلوا ما جاءت به الرسل ، والعقل هنا هو الفهم ، ومع ذلك هم من
أصحاب السعير ، مما يدل على عدم اشتراط الفهم لقيام الحجة ، والله أعلم . الثامن
: قوله تعالى } ولقد ذرأنا لجنهم كثيرًا من الجن
والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها... { الآية ، فأخبر جل وعلا أنه سلب
الكافرين أدوات الفهم وعطلها عن وظائفها المعنوية ، فالقلب لا يفقه - أي لا يفهم -
الكلام ولا يعرف معناه والعين لا تبصر الحق ، والأذن لا تسمع الهدى ، فأدوات الفهم
عندهم معطلة ، ومع ذلك أخبر أنه ذرأهم لجهنم أي جعلهم حطبًا لها ووقودًا يحترقون
فيها ، فلو كان الفهم شرطًا لقيام الحجة لما ذرأهم لجهنم ، لكن لما عذبهم مع عدم
فهمهم دل ذلك على أن المشترط فقد إنما هو البلوغ وأن الفهم ليس يشترط ، والله أعلم
. التاسع : قوله تعالى : } وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع
كلام الله { فلم يشترط إلا السماع فقط ، وما
ذلك إلا لأن الفهم ليس بشرط ، وإنما هو السماع فقط ، والسماع هو المراد بالبلوغ ،
والله أعلم . العاشر : أن النبي e كان يبعث الدعاة والرسل إلى ملوك الأقاليم المجاورة ولا يأمرهم إلا بالبلوغ
فقط ، ولم ينقل عنه في نص واحدٍ أنه أوصاهم أن يتأكدوا من فهم السامعين مما يدل
على أن الحجة قائمة على هؤلاء بمجرد البلاغ
فدل على أن الفهم ليس بشرط ، والله أعلم . الحادي عشر : دعوى
الإجماع على أن كل من بلغته دعوة الرسول e أن حجة الله عليه قائمة ، فكل من بلغه القرآن فليس بمعذور وإن لم يتحقق له
فهمها ، والله أعلم . فهذه هي مجمل أدلتهم ويتبين منها أنها بنيت على أمور :
منها : لفظ البلاغ وما تصرف منه ، فإن أصحاب هذا القول
يرون أن البلاغ إنما هو مجرد وصول الكلام وسماعه لا فهمه ، فالفهم عندهم لا يتعلق
بالبلاغ ، والأدلة السابقة لم تشترط إلا البلاغ فقط ، فاشتراط الفهم يعتبر اشتراط
زائد على ما قضت به هذه الأدلة وعلى مشترطه الدليل ؛ لأنه خلاف الأصل . ومنها
: ضعف النظر في أدلة أصحاب القول الثاني الآتية إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
وذهب جمع
من أهل العلم رحمهم الله تعالى إلى أنه لا تقوم الحجة إلا بمجموع البلوغ
والفهم واستدلوا بأدلة كثيرة أذكر منها ما
يلي :
الأول : قوله تعالى } وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس
ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون { فأخبر جل وعلا أنه أنزل الذكر إلى النبي e حتى يبين
للناس ما نزل إليهم من ربهم والتبيين درجة من درجات الفهم ، فمن لم يفهم لم يتبين
له ، وأما من تبين له فإنه لابد يكون قد فهم ، فإذا كان النبي e مأمورًا
أن يبين للناس ما نزل إليهم فإنه يكون مأمورًا بتفهيمهم ما نزل إليهم ؛ ذلك لأن
البيان درجة بعد الفهم ، والله أعلم . الثاني : قوله تعالى } وأنزلنا إليك الكتاب تبيانًا
لكل شيء { وهو في وجه الاستشهاد وكسابقه .
الثالث : أنه لما نزل قوله تعالى : } وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم
الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر { عمد عدي بن حاتم t إلى
عقالين ووضعهما عند وساده فصار يأكل وينظر إليهما فلما بنينا إذا الصبح قد طلع
فأخبر بذلك النبي e فقال (( إن وسادك لعريض إنما هو نور الفجر وظلمة الليل )) ولم يأمره النبي e بقضاء
ذلك اليوم ، مما يدل على أنه غير مكلف بذلك لعدم فهمه لهذه الآية . وهنا قد تحقق
سماعه لكن تخلف الفهم لها ، فأسقط النبي e القضاء ؛ لأن الحجة لم تقم عليه بهذه الآية لعدم فهمه لها ، مما يدل على
اشتراط الفهم لقيام الحجة وهذا صريح في محل النزاع . الرابع : إجماع
العلماء قاطبة على عدم تكليف المجنون والصبي غير المميز ، وذلك لعدم فهمهما للخطاب
، أما المجنون فبالأصالة أي لفقدان عقله أصلاً والعقل وسيلة الفهم ، وأما الصغير
فلأن عقله التكليفي لم ينضج بعد ، واختلفوا في الصبي المميز على قولين هما روايتان
في المذهب ، والأصح أنه ليس بمكلف أيضًا ، والذين قالوا بتكليفه قالوا : لأنه يفهم
الخطاب ويرد الجواب فجعلوا مناط تكليفه فهمه ، فكذلك البالغ العاقل إذا لم يفهم
الخطاب فهو غير مكلف بجامع عدم الفهم ، وكما أن بلوغ الخطاب لهؤلاء لا يكفي لقيام
الحجة عليهم فكذلك المكلف لا يكفي لقيام الحجة عليه بلوغ الخطاب فقط بلا فهم ،
وهذا واضح. الخامس : أن المراد بالشرائع السماوية جميعها تعريف المكلف ما
يجوز له ، وما يجب عليه وما يحرم عليه ، أي القصد منها الامتثال بفعل
المأمور وترك المحظور ، وهذا لا يكون إلا بفهم
فليس المراد من الشرائع مجرد بلوغها مسامع الناس ، وإنما المراد وعيها
وفهمها . السادس : حديث الأسود بن سريع أن نبي الله e قال ((
أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئًا ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة .
فأما الأصم فيقول : رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا ، وأما الأحمق فيقول : رب قد
جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب قد جاء الإسلام وما
أعقل شيئًا ، وأما الذي مات في فترة فيقول : رب ما أتاني من رسول الله ، فيأخذ
ميثاقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار ، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت
عليهم بردًا وسلامًا )) رواه أحمد وابن حبان وهو حديث صحيح بشواهده . فعدم عقل
الأحمق والهرم صار مانعًا من عذاب الله لهم فهي حجة مقبولة ، مما يدل على أن الحجة
لم تكن قامت عليهم لعدم فهمهم مما يدل على اشتراط الفهم لقيامها .
إذا علمت
هذا فاعلم - يا رعاك الله - أنه بعد النظر في أدلة الفريقين والمقارنة بينهما تبين
لي والله أعلم أن الخلاف لفظي ، وإنما الآفة في القصور في فهم كلام العلماء الذين
تكلموا في هذه المسألة فإن كلام العلماء
لا يختلف ولا اضطراب فيه ، فالمتتبع لكلامهم في هذه المسألة يجده لا غبار عليه .
وبيان ذلك
أن تفرق بين الفهم المطلق ومطلق الفهم ، فأما الفهم المطلق فاتفق الفريقان جميعًا
على أنه ليس بشرط في قيام الحجة ، والمراد بالفهم المطلق أي الفهم الكامل التام
الذي يكون مؤثرًا في العمل كفهم أبي بكر وعمر وجلة الصحابة والسلف الصالح ، فإن
هذا الفهم بهذا الاعتبار ليس بشرط في قيام الحجة عند العلماء قاطبة ، وأما مطلق
الفهم وهو أدنى درجات الفهم فإنه شرط عند العلماء كافة ، والمراد بمطلق الفهم أي
أن يعرف المراد سواءً امتثل أو لم يمتثل ، فأصحاب القول الأول إنما نفوا اشتراط
الفهم المطلق ولكنهم لم ينفوا مطلق الفهم ، وأصحب القول الثاني إنما يريدون إثبات
مطلق الفهم ، لكنهم لا يريدون الفهم المطلق ، وعليك أن تعرف أن أي آية فيها الأمر
بالبلاغ فإن المراد بها البلاغ التام الذي لا يبقى معه لبس وذلك يرجع لأمرين :
لوضوح القرآن ولكمال المبلغ ، فإذا اجتمع الأمران فإن البلاغ يكون حينئذٍ
تامًا ، وأما الفقه المنفي في التي استدل بها أصحاب القول الأول فإنما هو
الفقه المؤثر في النفس الموصل إلى الامتثال بفعل المأمور وترك المحظور ، وأما مطلق
الفقه فهو متحقق فيهم ، فالمشركون يعرفون معرفة يقينية المراد من كلام الله تعالى
( ألم تر ) إلى قوله تعالى } إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون
ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون { وقوله تعالى } فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به { وقوله تعالى } فإنهم لا يكذبونك ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون { وقوله تعالى } يعرفونه كما يعرفون أبناءهم { فالكفار يعرفون المراد من كلام الله تعالى
ويفهمونه ويعرفون دلالاته وبخاصة القرآن الذي نزل بلغتهم ولسانهم الذي يتقنونه ،
ولذلك كان يأخذ بمجامع قلوبهم وأسماعهم لكنهم لم يمتثلوا ما فيه بل كذبوه وكفروا به ، فعندهم مطلق الفهم لا
الفهم المطلق ، والحجة يكفي لقيامها مطلق الفهم فإذا سمعت القرآن وعرفت المراد مما سمعت قامت
عليك الحجة ، لكن إن امتثلت فعندك فهم آخر وهو فهم الامتثال وهذا كهداية التوفيق
والإلهام فهي من الله تعالى ، ففهم الامتثال من الله تعالى أيضًا . وبهذا التحقيق
تعلم أن الفهم المطلق ليس بشرط عند الجميع وأن مطلق الفهم شرط عند الجميع .فما هو
الفهم الذي ينفيه أصحاب القول الأول والذي يثبته أصحاب القول الثاني ؟
أقول :
الفهم الذي ينفيه أصحاب القول الأول هو الفهم الزائد على مطلق الفهم ، والفهم الذي
يثبته أصحاب القول الثاني هو مطلق الفهم أي معرفة المراد .
فالخلاف إذًا لفظي ، وسببه عدم تحرير محل النزاع ، ولعلي بهذا الشرح قد
أوصلت لك شيئًا من شرح هذه المسألة ، والله أعلم .
الفرع الموفي للتسعين : اعلم رحمك الله تعالى أن الأحاديث الواردة في شأن التحريم بالرضاع قد
وردت على نوعين ، على الإطلاق وعلى التقييد ، فمما ورد مطلقا قوله تعالى في سباق
المحرمات من النساء ] وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ [ فهنا أطلق ، ومما ورد مطلقا
أيضا :- قوله صلى الله عليه وسلم " يحرم من الرضاع ما يحرج من النسب " وعن
عائشة رضي الله عنها قالت «إِن أفلح أخا أبي القُعَيْس استأذن عَلَيّ ، بعدما نزل
الحجابُ. فقلت: والله لا آذَنُ حتى أستأذِنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فإن
أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته. فقال: ائذني له ، فإِنه عمكِ.
تَرِبَتْ يمينكِ. قال عروة : فبذلك كانت عائشة تقول : حَرِّمُوا من الرضاعة ما
يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قلتُ : يا رسولَ
الله، مالك تَتُوق في قريش وتدعنا ؟ قال : وعندكم شيء ؟ قلت: نعم بنت حمزة. فقال
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «إِنها لا تحلّ لي ، إِنها ابنة أخي من الرضاعة».
أخرجه مسلم ، والنسائي.فهذه الأحاديث كما تراها - وفقك الله تعالى - قد وردت مطلقة
، ولكن هذه الأحاديث قد ورد ما يقيدها ، فمن القيود لها أن تكون بخمس رضعات ، فما
كان أقل من ذلك فإنه لا يفيد التحريم وبرهان هذا حديث عائشة رضي الله عنها قالت :-
كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن إلى خمس معلومات ...
وقال عليه الصلاة والسلام " لا تحرم المصة ولا المصتان " وقال «لا تحرّم
الإملاجة ، ولا الإِملاجتان» فهذا القيد لا بد من اعتباره ، ومن القيود أيضا
لأحاديث الرضاع ،أن يكون في الحولين قبل الفطام ، وبرهان هذا :- فعن أم سلمة رضي
الله عنها أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يُحَرِّمُ من الرضاع إِلا
ما فَتق الأمعاء في الثَّدْي وكان قبل الفِطام». أخرجه الترمذي ، وقال عليه الصلاة
والسلام " إنما الرضاعة من المجاعة " وعن يحيى بن سعيد : أن رجلا سأل
أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فقال «إِني مَصِصت من امرأتي من ثديها لبنا ، فذهب
في بطني ؟ فقال أبو موسى : لا أُراها إِلا وقد حَرُمَتْ عليكَ. فقال عبد الله بن
مسعود : انظر ما تُفتِي به الرجل. فقال أبو موسى : فما تقول أنت ؟ فقال عبد الله
بن مسعود : لا رضاعة إِلا ما كان في الحولين. فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما
كان هذا الحِبْر بين أظهركم». أخرجه الموطأ. ولأبي داود «قال ابن مسعود : لا رضاع
إِلا ما شدّ العَظْمَ وأنْبَتَ اللحم. فقال أبو موسى : لا تسألونا وهذا الحبر
فيكم» فهنا قيدان ، الأول :- أن يكون الرضاع خمس رضعات ، الثاني :- أن يكون في
الحولين ، فلا بد من تقييد ما أطلق من أحاديث الرضاع بها لأن المتقرر في القواعد أن المطلق يبنى على
المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله أعلم .
الفرع الحادي التسعون : اعلم رحمك الله تعالى أن النصوص الآمرة والمرغبة في الوصية وردت على
وجهين ، على وجه الإطلاق ، وعلى وجه التقييد ، فمما ورد مطلقا قوله تعالى ] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ
تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [ وقال تعالى ] يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ
اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ... الآية [ وقال تعالى ] مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا
أَوْ دَيْنٍ [ وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رسولَ الله
صلى الله عليه وسلم قال «ما حَقُّ امرئ مسلم له شيء يوصِي به - وفي رواية: له شيء
يريد أن يوصي به - أن يبيت ليلتين - وفي رواية : ثلاث ليال - إِلا ووصيته مكتوبة
عنده» فهذا مطلق عن التقدير ، ولكن قد وردت نصوص أخرى تقيد هذا المطلق بالوصية
بالثلث فقط ، ولا تجوز الزيادة عليها ، فمن أوصى بما زاد على الثلث فإنه يكون
ممنوعا في الأصل إلا برضا الورثة وإجازتهم ، لأن الحق لهم ، وبرهان القيد حديث سعد
بن أبي وقاص رضي الله عنه قال «جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني ، عامَ
حَجَّة الوداع ، من وجع اشتدّ بي. فقلتُ : يا رسول الله، إِني قد بلغ بي من الوجع
ما ترى ، وأنا ذو مال ، ولا يَرثُنِي إِلا ابنة لي، أَفأَتصدَّق بثلثي مالي؟ قال:
لا. قلتُ : فالشَّطْر يا رسول الله ؟ فقال: لا. قلتُ : فالثلث؟ قال: فالثلث ،
والثلث كثير- أو كبير - إنك أن تَذَرْ ورثتك أغنياء خير من أن تَذَرهم عالَة
يَتَكَفَّفُون الناسَ ، وإنك لن تُنفقَ نفقة تبتغِي بها وجه الله إِلا أُجِرْتَ
بها ، حتى ما تجعلُ في في امرأتك. قال: فقلتُ : يا رسول الله، أُخَلَّفُ بَعْدَ
أصحابي ؟ قال: إنك لن تُخَلَّفَ فتعملَ عملا تبتغي به وجه الله ، إِلا زدت به درجة
ورفعة ، ولعلّك أن تُخَلَّفَ حتى ينتفع بك أقوام ويُضَرّ بك آخرون اللهم أمض لأصحابي هجرتَهم ، ولا تَرُدَّهم على
أعقابهم لكن البائسُ سعد بن خَوْلة. يَرْثِي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
مات بمكة» ، وكان ابن عباس يقول «لو غَضَّ الناسُ من الثلث إِلى الربع؟ لأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد : الثلث، والثلث كثير أو كبير» وَعَنْ مُعَاذِ
بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "
إِنَّ اَللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ ;
زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ " رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ ، فما ورد مطلقا
في نصوص الوصية فلا بد وأن يقيد بالنصوص
الدالة على المنع مما زاد على الثلث ، لأن المتقرر في القواعد أن المطلق يبنى على
المقيد إن اتفقا في الحكم ، والله أعلم .
الفرع الثاني والتسعون : قال الشيخ محمد رحمه الله تعالى في شرح رياض الصالحين (هذه الأحاديث
ساقها النووي - رحمه الله - في باب تحريم الكبر والإعجاب فذكر عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم
القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم " ثلاثة يعني ثلاثة أصناف وليس المراد
ثلاثة رجال بل قد يكونون آلافا من الناس لكن المراد ثلاثة أصناف، وهكذا كلما جاءت
كلمة ثلاثة أو سبعة أو ما أشبه ذلك بالمراد أصنافا لا أفرادا فهؤلاء الثلاثة لا
يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم .الأول: شيخ
زان يعني رجلا كبيرا مسنا زنى، فهذا لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه،
ولا يزكيه وله عذاب أليم، وذلك لأن الشيخ ليس هناك شهوة تجبره على أن يفعل هذا
الفعل فالشاب قد يكون عنده شهوة ويعجز أن يملك نفسه، لكن الشيخ قد بردت شهوته
وزالت أو نقصت كثيرا فكونه يزني هذا يدل على أنه - والعياذ بالله - سيئ للغاية
لأنه فعل الفاحشة من غير سبب قوي يدفعه إليها , والزنا كله فاحشة سواء من الشاب أو
من الشيخ لكنه من الشيخ أشد وأعظم والعياذ بالله إلا أن هذا الحديث مقيد بما ثبت
في الصحيحين أن من أتى شيئا من هذه القاذورات وأقيم عليه الحد في الدنيا فإن الله
تعالى لا يمنع عليه عقوبتين بل يزول عنه ذلك، ويكون الحد تطهيرا له ) والله أعلم.
الفرع الثالث والتسعون : اعلم رحمك الله تعالى أن أحاديث النهي بعد صلاة العصر والفجر قد وردت
مطلقة ومقيدة ، فمما ورد مطلقا قوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة بعد العصر
حتى تغرب الشمس ، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس " متفق عليه ، فهذا مطلق
في النهي ولكنه قد ورد مقيدا في بعض الروايات بصلاة العصر والفجر ، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم في الصحيح «لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغربَ الشمس ، ولا صلاة بعد
صلاة الفجر حتى تطلع الشمس» فهنا قيد النهي عن الصلاة بفعل الصلاة ، لا بدخول
وقتها ، وللبخاري عن قزَعَةَ ، قال «سمعتُ
أبا سعيد يُحدِّثُ بأرْبَع عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأعْجَبنني وآنقْنَنني
قال " لا تُسافِرُ المرأَةُ يومين إلا ومعها زوجها أو ذُو محرم ، ولا صومَ في
يومين: ، الفِطْرِ والأضحى ، ولا صلاةَ بعد صلاتين : بعد الصبح حتى تطلع الشمس ،
وبعد العصر حتى تغرب الشمس " فقوله "بعد صلاتين" دليل على أن النهي
الوارد بالإطلاق يقيد بفعل الصلاة ، وهذا هو الراجح في هذه المسألة إن شاء الله
تعالى ، لأن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى هو أن المطلق يبنى على المطلق
إن اتفقا في الحكم والسبب ، والله أعلم .
الفرع الرابع والتسعون : قال العلماء :- إن حديث عائشة رضي الله عنها "ما شبع آل محمد صلى
الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض"
البخاري ومسلم ، أن الشبع المنفي في هذا الحديث مقيد بقيدين هما , أولا:- الشبع
المتوالي بمعنى أنهم لا يشبعون الأيام المذكورة متوالية ، ولهذا يأخذ من الحديث
جواز الشبع في الجملة .الثاني :- قيد
الشبع بالطعام المذكور، وهو البر ، وعند مسلم
"ما شبع من خبز الشعير يومين متتاليين " وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها بشبعهم من التمر
، ففي صحيح البخاري " توفي النبي صلى الله عليه وسلم حين شبعنا من الأسودين
التمر والماء " ولعل عدم شبعهم من البر أو الشعير بسبب قلته عندهم أو أنهم قد
يجدون ويؤثرون على أنفسهم , أو يتركون ذلك كراهة الشبع وكثرة الأكل . وحديث أنس
رضي الله عنه " ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً، ولا شاة
مسموطة ، حتى لقي الله" البخاري ، الخبز المرقق : الترقيق هو التلين، والمرقق
من الخبز ما كان ملينا محسنا موسعا، وهذا النوع من الخبز لم يكن موجوداً في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة، وحين وجد في عهد الصحابة رضي الله عنهم
رأوا أنه من التوسع في العيش ، فعن قتادة، قال : كنا عند أنس رضي الله عنه وعنده خباز له ... فذكر الحديث .
وعند الطبراني من طريق راشد بن أبي راشد
قال " كان لأنس غلام يخبز له الحواري ويعجنه بالسمن " والحواري : الخالص
الذي ينخل مرة بعد مرة وعن أبي حازم أنه
سأل سهلا هل رأيتم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم النقي ؟ - أي خبز الدقيق
الحواري ، وهو النظيف الأبيض - قال : لا ، قال : فهل كنتم تنخلون الشعير ؟ قال :
لا ولكن كنا ننفخه وفي لفظ آخر : هل كانت
لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ قال : ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
مناخل من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله . أخرجه البخاري ، والشاة المسموطة :
المسموط الذي أزيل شعره بالماء المسخن ، وشوى بجلده أو يطبخ ويصنع ذلك في الصغير السن الطري ، وقد ذكر
العلماء أن طبخ الشاة على هذه الصفة من صنيع أهل الترف ) والله أعلم .
الفرع الخامس والتسعون :- قال صاحب كتاب مرويات غزوة حنين ، وهو يحاول الجمع بين ما وقع للمسلمين
في غزوة حنين وبين حديث " لن يغلب اثنا عشر ألف من قلة " فقال وفقه الله
تعالى لكل خير ( قال النبي صلى الله عليه
وسلم "ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة" وفي لفظ عند أحمد "لن يغلب
قوم عن قلة يبلغون أن يكونوا اثني عشر ألفا"وعند الدارمي "وما بلغ اثنا
عشر ألفا فصبروا وصدقوا فغلبوا من قلة"وعند أبي يعلى "وما هزم قوم بلغوا
اثني عشر ألفا من قلة إذا صدقوا وصبروا"وعند الواقدي "ولا تغلب اثنا عشر
ألفا من قلة كلمتهم واحدة" ذلك أن هذا الحديث مقيد بقيدين وهما "الصبر،
والصدق" فإذا بلغ الجيش هذا العدد لا يغلب من قلة، إذا صبروا وصدقوا، بل ربما
يكون عددهم أقل من هذا ويكون النصر حليفهم بالصبر والصدق، وإنما يغلبون لأمر آخر
كالإعجاب بالكثرة وبما زين لهم الشيطان من أنفسهم من قدرتهم على الحرب وشجاعتهم
وقوتهم ونحو ذلك.والحاصل أن انتصار المسلمين مرتبط بأسباب وموانع، فإذا توفرت
الأسباب وانتفت الموانع حصل النصر بإذن الله قل العدد أو كثر، كما قال تعالى ] كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [ على أنه قد يقال بعدم التعارض مطلقا بين ما وقع في حنين، وما
يتضمنه قوله صلى الله عليه وسلم "لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة" ذلك أن
ما وقع في حنين ليس هزيمة كسر فيها المسلمون ولم يقم لهم بعدها قائمة في هذه
المعركة، وإنما الذي حدث هو إدبار في بادئ المعركة، أعقبه بعد ذلك انتصار عظيم على
الكفار، وغنيمة لما معهم، فمثل هذه الحال لا يقال فيها إنها هزيمة نهائية، وعليه
فلا تعارض، وهذا أظهر وأوجه. والله أعلم.
الفرع السادس والتسعون : في قول الله تعالى ]فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء[ استخرج منها فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى عدة
أحكام وفوائد ، فقال في الفائدة العاشرة من فوائدها ( ومنها: إثبات مشيئة الله؛
لقوله تعالى { لمن يشاء } ولكن هل هذه المشيئة مشيئة مجردة؛ أي أن الترجيح يكون
فيها بدون سبب؛ أو هي مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة والحكمة؟ الجواب أنها مشيئة
مقيدة بما تقتضيه المصلحة، والحكمة؛ وعليه فخذ هذا مقياساً: كل شيء علقه الله على
المشيئة فإنه مقيد بالحكمة؛ ودليله قوله تعالى ] وَمَا
تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [ والله أعلم .
الفرع
السابع والتسعون : قال العلماء :- قاعدة : كل
وعيد للفساق الذين ماتوا على الإسلام فهو مقيد بقوله تعالى ] إِنَّ اللّهَ
لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [ وهذه هي الآية المحكمة التي يرجع إليها ، وهي قاعدة نفسية جدا ،
وقالوا أيضا :- قاعدة : كل نصوص الوعد والوعيد فإنها مقيدة في ترتب آثارها على
تحقق الشروط وانتفاء الموانع ، وهي من أنفس القواعد العلمية ، والتي يزول بها
إشكالات كثيرة ،وهاتان القاعدتان مفرعتان على قاعدة ( الإطلاق والتقييد ) والله
أعلم .
الفرع الثامن والتسعون : في قوله تعالى "ولا تجسسوا " قال الطاهر بن عاشور رحمه الله
تعالى في تفسيره التحرير والتنوير (ووجه النهي عنه أنه ضرب من الكيد والتطلع على
العورات. وقد يرى المتجسس من المتجسس عليه ما يسوءه فتنشأ عنه العداوة والحقد.
ويدخل صدره الحرج والتخوف بعد أن كانت ضمائره خالصة طيبة وذلك من نكد العيش.وذلك ثلم
للأخوة الإسلامية لأنه يبعث على إظهار التنكر ثم إن اطلع المتجسس عليه على تجسس
الآخر ساءه فنشأ في نفسه كره له وانثلمت الأخوة ثلمة أخرى كما وصفنا في حال
المتجسس، ثم يبعث ذلك على انتقام كليهما من أخيه. وإذ قد اعتبر النهي عن التجسس من
فروع النهي عن الظن فهو مقيد بالتجسس الذي هو إثم أو يفضي إلى الإثم، وإذا علم أنه
يترتب عليه مفسدة عامة صار التجسس كبيرة. ومنه التجسس على المسلمين لمن يبتغي الضر
بهم.فالمنهي عنه هو التجسس الذي لا ينجر منه نفع للمسلمين أو دفع ضر عنهم فلا يشمل التجسس
على الأعداء ولا تجسس الشرط على الجناة واللصوص) والمقصود من هذا الفرع هو أنه
رحمه الله تعالى قد قيد إطلاق النهي عن التجسس بما لا مصلحة فيه معتبرة شرعا ، وهو
تخريج على قاعدة الإطلاق والتقييد . والله أعلم .
الفرع التاسع والتسعون : قال النبي صلى
الله عليه وسلم " واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب "
قال السندي رحمه الله تعالى في حاشيته على سنن ابن ماجه ( قوله "وَبَيْن
اللَّه " أَيْ بَيْن وُصُولهَا إِلَى مَحَلّ الِاسْتِجَابَة وَالْقَبُول
وَقَدْ جَاءَ وَلَوْ كَانَ عَاصِيًا فَعِنْد أَحْمَد مَرْفُوعًا دَعْوَة الْمَظْلُوم
مُسْتَجَابَة وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُوره عَلَى نَفْسه وَإِسْنَاده صَحِيح
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ هَذَا الْحَدِيث وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَهُوَ مُقَيَّد
بِالْحَدِيثِ الْآخَر أَنَّ الدَّاعِي عَلَى ثَلَاث مَرَاتِب إِمَّا أَنَّ
يُعَجَّل لَهُ مَا طَلَب وَإِمَّا أَنَّ يُؤَخَّر لَهُ أَفْضَل مِنْهُ وَأُمًّا
أَنْ يُدْفَع مِنْ السُّوء مِثْله وَهَذَا كَمَا قَيَّدَ مُطْلَق قَوْله تَعَالَى ] أَمَّنْ
يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [
بِقَوْلِهِ ]
فَيَكْشِف مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ [ ذَكَرَهُ
السُّيُوطِي وَاَللَّه أَعْلَم)
الفرع الموفي
للمائة
: في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلين خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما
ماء فتيمما صعيدا طيبا وصليا ، ثم وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما الوضوء
والصلاة ، ولم يعد الآخر ، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا له ذلك ،
فقال للذي لم يعد " أصبت السنة " وقال للذي أعاد " لك الأجر مرتين
" قال الصنعاني رحمه الله تعالى في بيان فوائد هذا الحديث في سبل السلام
(والحديث دليل على جواز الاجتهاد في عصره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وعلى أنه
لا يجب الطلب والتلوم له: أي الانتظار، ودل على أنه لا تجب الإعادة على من صلى
بالتراب، ثم وجد الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة.وقيل: بل يعيد الواجد في
الوقت لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه
بشرته" هذا قد وجد الماء.وأجيب: بأنه مطلق فيمن وجد الماء بعد الوقت، وقبل
خروجه، وحال الصلاة، وبعدها. وحديث أبي سعيد هذا فيمن لم يجد الماء في الوقت حال
الصلاة، فهو مقيد فيحمل عليه المطلق، فيكون معناه: فإذا وجدت الماء قبل الصلاة في
الوقت فأمسه بشرتك، أي: إذا وجدته، وعليك جنابة متقدمة، فيقيد به، كما قدمنا).
والله أعلم .
الفرع الأول
بعد المائة
: وأحب أن أختم لك هذه الوريقات اليسيرة بشيء من الترجيحات الفقهية التي تتخرج على
قاعدة الإطلاق والتقييد ، فأقول وبالله تعالى التوفيق :- الصحيح أن
لفظ الموكل إن ورد مطلقا ومقيدا فإن الواجب حمل المطلق على المقيد ، فإن قال :-
وكلتك ، وأطلق ، ثم قال بعد مدة :- وكلتك في شراء هذه السيارة ، فإن لفظه الأول
يقضي عليه لفظه الثاني ، لأن المطلق يبنى على المقيد ، والصحيح أن
الأمر بقضاء الفوائت على الفور مقيد بما إذا لم يتضرر في بدنه أو في معيشة يحتاجها
فإن تضرر بسبب ذلك سقطت الفورية نص عليه, والصحيح أن التجافي في السجود مقيد بما إذا لم يؤذ جاره ، والصحيح
أن النهي عن الالتفات في الصلاة مقيد بما إذا لم يكن ثم حاجة فإن كان ثم حاجة كما
إذا اشتد الحرب ونحوه لم يكره ومقيد أيضا بما إذا كان يسيرا فأما إن كان كثيرا مثل
إن استدار بجملته أو استدبرها فإن صلاته تبطل بلا نزاع , والصحيح أن
طاعة الأب في أمر ولده بالطلاق مقيد بصلاح الأب ووجود السبب المقنع ، والصحيح
أن مسافة السفر التي تترتب على قطعها أحكام السفر مقيدة بالعرف ، فما عده الناس
سفرا فهو السفر الشرعي وما لا فلا ، والصحيح أن طلب الدعاء من الرجل
الصالح الحي الحاضر القادر مقيد بأمن الفتنة عليه
والصحيح أن النصوص الآمرة بقضاء ما أفطره العبد بالعذر مقيدة
بما بين الرمضانين من الأيام بحيث أنه لا
يجوز له أن يدركه الرمضان الآخر إلا وقد صامها .
وفي الجملة فهذه القاعدة قاعدة عظيمة ، ولها
الأثر الكبير في الفروع ، وهي من قواعد الرسوخ في العلم ، فاشدد يديك عليها ،
وافهمها فهما كاملا ، وحاول أن تخرج الفروع عليها ، أسأل الله تعالى أن يوفقنا
وإياك لما فيه صلاح القول والعمل ، وفي الختام أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنة
وصفاته العلى أن يغفر للعلماء ، وأن يعلي قدرهم ، ويبارك في علمهم وجهودهم ، وأن
يجزيهم عنا خير الجزاء ، وأن يرفع نزلهم في الجنة ، وأن يتجاوز عنهم التجاوز
الكامل ، وأن يعاملهم بعفوه ومنه وجوده وكرمه وإحسانه وفضله ، وأن يعيننا على
معرفة قدرهم وإنزالهم منازلهم ، وأن يجعلنا الله ممن قال فيهم ] وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [ يا رب ارحم
أهل العلم الرحمة الواسعة واغفر لهم المغفرة التامة ، وارحم عامة المسلمين ، وانفع
بما نقول ونكتب ، وإني لأعلم أن النفع فيما كتبته يداي قليل جدا ، ولكن أسألك أن
تنزل فيه البركة تلو البركة ، وأن تشرح له الصدور وتجعله عملا خالصا لوجهك الكريم
، يا رب تقبله مني على عجره وبجره وقصوره ، إنك أنت مجيب الدعوات وقاضي الحاجات ،
وآخر دعوانا أن الحمد رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
، وقد وقع الفراغ منه بعد صلاة الفجر من اليوم السادس من رمضان المبارك عام ثلاثين
وأربعمائة وألف للهجرة ، وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه ، ثم أستغفره وأتوب إليه ،
ثم أستغفره وأتوب إليه ،،,,,,
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق