إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا، وبعد
بداية نحمد الله سبحانه وتعالى الذي جمعنا في هذا الجامع المبارك على هذه
الدروس العلمية النافعة، ثم إنَّا نحمده سبحانه على أن يسر لنا هذا الخير وسلك بنا
سبيلَ أهل العلم، فنسأله أن يوفقنا للسداد من القول والعمل، وأن يصلح نياتنا
وأعمالنا ويحقق فيما يرضيه أمانينا في الدنيا والآخرة، ثم إني أشكر كل من ساهم في
إقامة مثل هذه الدورات العلمية النافعة المباركة وعلى رأسها وزارة الشؤون
الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ممثلة بفرع الوزارة في الرياض، والشكر موصول
للمسئولين في هذا المسجد وهذا الجامع المبارك الذي عوَّدنا مثل هذه المناشط منذ
سنوات طويلة، فهو ولله الحمد ينبوع متدفق للخير في كل وقت وحين، ضياؤه أشرق فبلغ
الخافقين، واستفاد منه ألوف، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزل لهم الأجر
والمثوبة، وأخصُّ بذلك إمامَ هذا الجامع جزاه الله عني وعنكم وعن عموم المسلمين
خيرا، وكتب الله له ولإخوانه عظيمَ الأجر والمثوبة وزادهم توفيقا واجتهادا وسدادا
.
معاشر الإخوة؛ في مطلع هذا اللقاء والذي سيدوم إن شاء الله على مدى ستة
أيام متوالية نجتمع على دراسة علم شرَّفه الله ألا وهو حديث رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم، وقد وُفِّق الأخوة في اختيار متن من أهم المتون في السُّنَّة ألا وهو
كتاب عمدة الأحكام الذي جمع أحاديث الأحكام فكان عمدة فيها فوافق اسمُه مُسمّاه،
لأن العُمدة هو ما يُعتمد عليه، فهو كالأساس لأحاديث الأحكام، وهو من تأليف إمام
كبير عابد صالح، حياته لم تكن طويلة، عاش تسعا وخمسين سنة، ولكن الله بارك له في
عمره وعمله؛ فأصبحت كتبه مراجع وأصول عند أهل العلم، فله هذا الكتاب الذي يُعتبر
فريدا في فكرته، والذين كتبوا في أحاديث الأحكام غالبهم جاءوا بعده ونسجوا على
منواله، حيث إنه رحمه الله ولد عام واحد وأربعين وخمسمئة، وهو عبد الغني بن عبد
الواحد الجمَّاعيلي المقدسيّ، وتوفي رحمه الله سنة ستمئة، وكان منهجه أن يجمع
أحاديث الأحكام وذلك لأهمية أحاديث الأحكام من بين عموم الأحاديث لأنها أكثر صلة
بحياة المسلم اليومية، ثم إن أحاديث الأحكام تَهُمُّ عامَّة الأمّة، يحتاجها الكل،
الذكر والأنثى، الصغير والكبير، العربي والأعجمي، الجاهل والمتعلم والعالم، ولذا
اعتنى العلماء رحمهم الله بأحاديث الأحكام.
والمقصود بأحاديث الأحكام: هي الأحاديث
المتخصصة في العبادات والمعاملات والآداب، والإمام عبد الغني رحمه الله وُفِّق
أيضا في أَمْر تميَّز به على كثير من كتب أحاديث الأحكام؛ وهو أنه أخذ على نفسه -كما
سيظهر الآن في المقدمة التي سيقرأها أخوكم- أن تكون أحاديثه من الصحيحين، فكل
أحاديثه صحيحة، ولذا هو جمع بين الحسنيين؛ جمع أحاديث الأحكام والصحيح منها
المعتمد على الصحيحين، ولذا نال كتابُه هذه الحَظوة والمكانة العظيمة، ولذا فأنا أيضا
أكرر الشكر للأخوة على اختيارهم مثل هذا المتن المبارك والذي ينبغي لكل طالب عِلْم
وُفِّق لحفظ القرآن أن يبدأ أولا بالعناية بحفظ مثل هذا المتن، وسنبدأ على بركة
الله بالقراءة في هذا الكتاب لأني لا أريد أن أستطرد كثيرا في هذه المقدمة، فكلنا
في شوق إلى ما سطَّره هذا الإمام رحمه الله من أحاديث حملتْ الكثيرَ من الأحكام
والمسائل التي تمسُّ حياتنا بشكل مباشر
.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الحافظ؛ تقي الدين؛ أبو محمد عبد الغني بن عبد
الواحد بن علي بن سرور المقدسيّ رحمه الله تعالى:
الحمد لله الملك الجبار، الواحد القهار، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له؛ رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار، وأشهد أن
محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار
الأخيار، أما بعد
فإن بعض إخواني سألني اختصارَ جملة في أحاديث الأحكام
مما اتفق عليه الإمامان: أبو عبد الله؛ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاريّ،
ومسلم بن الحجاج بن مسلم القُشَيريُّ النيسابوريّ. فأجبته إلى سؤاله رجاء المنفعة به.
وأسأل الله أن ينفعنا به ومن كتبه أو سمعه أَو قرأَه أَو
حفظه أو نظر فيه، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، موجباً للفوز لديه في جنات
النعيم، فإنه حسبنا ونعم الوكيل.
كتابُ الطَّهَارَةِ
1- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه؛ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ
- وَفِي رِوَايَةٍ: بِالنِّيَّةِ - وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ
كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ
يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ».([1])
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بداية قبل أن أشرع في الكلام على الحديث الأول هناك لفتة جاءت في كلام
المؤلف رحمه الله تعالى في المقدمة وهو أن الكتاب سبب تأليفه أنه سأله بعض الأخوة،
وهذا غالب كتب الأئمة أنها نشأت من حاجة الناس إليه بخلاف ما ظهر في العصور
المتأخرة مع الأسف حيث ظهرت مؤلفات كثيرة سبب وجودها حاجةُ المؤلف نفسه، وليس حاجة
الناس إلى علمه، ولذا تلاحظون أنه يقول: سألني بعض الأخوة؛ طلب مني، ولذا نفع الله
بهذه الكتب، لأن الدافع إليها هو حاجة الناس وليس أن هذا الإمام أراد أن يتكثَّر
وأن تعظم منزلتُهُ في أعين الناس من خلال هذه الكتب التي يؤلفها، بل بعض من ابتُلي
بمثل هذا المرض تجده يتحدث عن مؤلفاته وإن لم يُسئل عنها، أما هنا رحمهم الله فكان
التأليف والتدريس ينشأ من حاجة الناس وإلا فهم أحرص الناس على أن يكونوا بعيدين عن
الأضواء وعن الشهرة وعن المعرفة.
يقول المؤلف رحمه الله تعالى، وقد رتب كتابه على أبواب الفقه، وهذا هو
الترتيب المناسب لأحاديث الأحكام، وهو أنهم يبدؤون بالعبادات قبل المعاملات ويبدؤون
من العبادات بأركان الإسلام مرتبة حسب ورودها في حديث ابن عمر، فالصلاة قبل الزكاة
وبعدهما الصوم ثم الحج، وبما أن الطهارة شرطٌ لصحة الصلاة ومفتاح للصلاة فيبدؤون
بالطهارة فكأن الطهارة أساس للصلاة أو أساس للعبادات، والمؤلف رحمه الله تعالى سلك
مسلك الإمام البخاري الذي افتتح كتابَه بحديث عمر رضي الله عنه المشهور في النّيّة.
معلوم أن المتقدمين كانوا لا يعتنون بالمقدمات في كتبهم مع أن هناك من كتب
مقدمة متصلة كالإمام مسلم أو منفصلة كأبي داود، فمن الفروق بين الصحيحين بين صحيح
البخاري وصحيح مسلم أن مسلم كتب مقدمة لصحيحه ومقدمة رائعة فيها تأصيل وعلوم نافعة
أما البخاري فلا، مباشرة دخل في الأحاديث لا ذكر سبب تأليفه ولا ذكر منهجه، إلا
أنه ابتدأ بهذا الحديث فقالوا إنه جعله كالمقدمة لصحيحه، ومنهم من قال: لعله أراد
أن ينبّه أن جميع العبادات والاعتقادات التي تضمنها كتابه من خلال تلك الأحاديث
التي أسندها لا تنفع إلا إذا كان أساسها النّيّة الصالحة، أي كأنه ينبّه أن أساس
هذه الأحاديث كلها هو حديث عمر، ومنهم من قال: لعله أراد أن يُذَكِّرَ نفسَه وغيرَه
باستحضار النّيّة الصالحة باعتبار أن القراءة في مثل هذه الكتب سواء كان صحيح
البخاري أو عمدة الأحكام أو كحالنا في مثل هذه الدورة أو هذه الدروس كأنه ينبّه
أنه لا بد من استحضار النّيّة، فعلى كل حال هو حديث عظيم، كما قال بعض الأئمة:
يدخل في كل باب من أبواب العلم، ولذا اعتبره بعض الأئمة أنه يقوم عليه نصف الدين،
لأن الدين يقوم على شرطين: الإخلاص والمتابعة، فالإخلاص تضمّنه حديثُ عمر رضي الله
عنه، ومنهم من قال أنه تضمن ثلث الدين، جعل الدين يرجع إلى ثلاثة أحاديث، هذا
الحديث وحديث عائشة «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»([2]) وحديث «من حسن إسلام المرء تركه ما لا
يعنيه»([3])، ومنهم من جعل الدين يرجع إلى أربعة
أحاديث، فعلى كل حال في كل الأقوال يبقى هذا الحديث حديث عظيم، وفعلا من تأمّل ما تضمنه
هذا الحديث يجد أنه حاضر في كل حركة وسكون في حياة المسلم، لأن كل حركة وسكون في
هذا الكون في حياة المسلم يستطيع بإذن الله أن يجعلها في جانب الحسنات أو أنها
تفوت عليه، فلا تكون في كفة الحسنات و ربما صارت في كفة السيئات إن كان من الأعمال
الشرعية فابتغى بها غير الله، بالطبع ذكر بعض العلماء أن لهذا الحديث سبب وهو ما
ذكروا أن مهاجر أم قيس، لكن في سند هذه القصة ضعف، ونحن يهمنا الحديث لأن دلالته واضحة
وظاهرة.
يقول النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنّيّات» بالجمع، وفي
رواية «بالنّيّة» والنية هي القصد والإرادة، وهي من أعمال القلوب، وربما ظنّ كثيرٌ
من الناس أن النّيّة في درجة واحدة، والصحيح أنها بدرجات؛ ليست درجة واحدة، ولذا
قسمها بعض أهل العلم إلى ست مراتب، لأنه فرق بين الخاطرة وبين الإرادة، وبين
الإرادة والعزيمة، والهَمّ بالشيء؛ لأن الهمّ يتضمن اهتماما بخلاف الخاطرة التي
ترد على النفس أو على القلب، ولذا الله سبحانه وتعالى مخاطبا رسوله ﴿فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾([4]) لأنك وصلت المرتبة العليا في القصد
والإرادة، ليس هناك تراجع، لماذا؟ لأنه أشكل على الناس قول النَّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم «من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة»([5]) لاحظ، يعني من نوى فعل سيئة فلم
يعملها كتبت له حسنة، خذ هذا الحديث، إنسان أراد أن يعمل سيئة ولم يفعلها، الإرادة
موجودة لكن الفعل غير موجودة، ليس أنه لم يعاقب علة نيته؛ بل الله سبحانه وتعالى
أعطاه أجرا! بالمقابل جاء حديث «إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في
النار» قالوا: يا رسول الله؛ هذا القاتل فما بال المقتول؟ يعني القاتل واضح أنه
يستحق العقوبة لأنه اجتمع عنده إرادة وفعل – قتل أخاه المسلم -، لكن فما بال
المقتول لم يقتل، طيب عنده إرادة؛ أين حديث «من همَّ بسيئة»؟ فماذا قال النَّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه»([6]) لاحظ حريص، ليس مجرد نية، تجاوزت درجة
النية إلى الحرص، الحرص معناه صار فيه محاولة، إذا انتبه ليست النية بدرجة واحدة،
فهناك نيّة تعاقب عليها أنت وهناك نيّة لا تعاقب عليها، ما هي النية التي لا تعاقب
عليها؟ هي النية التي تكون مجرد خاطرة مرت على النفس لكن إذا تمكنت وتجذرت إلى
إرادة وقصد وهمة وعزيمة وخصوصا إذا اقترن بذلك أن المانع لم يكن لله سبحانه وتعالى
وإنما سبب آخر، خوف من الناس، خوف من العقوبة الدنيوية، يعني لم يكن الدافع لترك
هذه النّيّة السيئة هو الخوف من الله سبحانه وتعالى؛ فإن هذه النية لاشك أنه يعاقب
عليها من الله سبحانه وتعالى أخذا بحديث «إنه كان حريصا على قتل صاحبه»، إذا ننتبه
إلى أن النية السيئة منها ما لا يؤاخذ عليه المسلم ومنها ما يؤخذ عليها المسلم.
«وإنما لكل امرأ ما نوى، فمن كانت هجرته» الهجرة في اللغة هي الترك، تقول
هجرت المكان: تركته، هجرت القرآن تركته، لكن في الاصطلاح هي الانتقال من بلد الكفر
إلى بلد الإسلام، والهجرة هجرتان حسية - وهي ماذا ذكرته لكم: الانتقال – ومعنوية هي
ما جاء التعبير عنها في الحديث «والمهاجر ما هجر ما نهى الله عنه»([7]) إذًا هذه هي الهجرة المعنوية، وهذا
الذي أراده الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (طريق الهجرتين) فالهجرة المعنوية
هي هجر المحرمات؛ هجر المعاصي؛ هجر ما نهى الله عنها، وهذه هجرة باق شرفها، وعامة لكل
الناس حتى الذين يعيشون في بلاد الإسلام لديهم مجال أن يهاجروا وهي أن يهجروا ما
حرم الله؛ فيكونون في هجرة.
قال: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» أي قصده لأجل الله ورسوله «فهجرته
إلى الله ورسوله» فهو ينال إن شاء الله ما قصد، «ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها
أو امرأة ينكحها» بالطبع هذا تمثيل ولا يقصد به الحصر، لأن المقاصد كثيرة، قد
يهاجر الإنسان لأجل وظيفة؛ قد يهاجر لأجل جاه؛ قد يهاجر لأغراض متعددة، فإذا هاجر لشيء
من هذه المقاصد فإنه لا ينال أجر هجرته الذي رتبه الله سبحانه وتعالى للمهاجرين
يوم القيامة؛ وإنما يناله من هجرته ما قصد إنْ تحقق هذا المقصود.
هنا مسألة: قول النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «إنما الأعمال بالنّيّات» قد
تدخل النّيّة السيئة على المسلم فهل تفسد عمله؟ وخصوصا إذا كانت النّيّة من نوع
الشرك - سواء كان من الشرك الخفي أو الشرك الجلي -، والخفي الذي هو الرياء، يقول
الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾([8]) - الخطاب للنَّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم - وإذا كان هذا للنَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فغيره من باب أولى ﴿لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾([9]) فالشرك حتى الخفي منه الذي قال فيه
النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنه أخفى في أمتي من دبيب النملة السوداء في
الليلة الظلماء»([10])، خَفِيٌّ جدا يدخل على المقاصد ويدخل
على النيات فيفسد الأعمال، وهذه مشكلة وخطيرة لأن الإنسان يخشى أن يفسد عملُه وهو
لا يشعر، لا تقبلُ صلاته ولا صيامه ولا صدقته ولا طلبه للعلم؛ لأن الله سبحانه
وتعالى يقول في الحديث القدسي – وهو في صحيح مسلم - «أنا أغنى الشركاء عن الشرك،
من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»([11]) حتى ولو كان واحدا بالمئة، يعني أنت
قصدت بطلبك العلم أو بهذه الصلاة تسعة وتسعين بالمئة قصدت بها وجه الله سبحانه
وتعالى وواحد بالمئة قصدت مالا؛ جاهًا؛ سمعة، مثل ما ذكر كطرفة؛ قالوا: رجل كان
يصلي في خشوع وسمت طيب، فكان حوله ناس يعني يتعجبوا من هذا السمت والخشوع في
الصلاة فبدأوا يتحدثون فيما بينهم ويقولون: ما أحسن صلاته وخشوعه، فسمع كلامهم وطابت
نفسه لمثل هذا المديح؛ فالتفت إليهم وقال: وصائم أيضا – شيء لا تعلمونه -، فخطير
الأمر، قد يسري إلى النفس من غير أن تشعر واحد من هذه المقاصد، ذكر النَّبيّ صلّى
الله عليه وسلّم شيئا من هذه المقاصد، طيب خالط العمل، يفسد العمل جميعا؟ أم يفسد
الجزء الذي خالطته النّيّة الفاسدة؟ أو أنه يسلم باعتبار أن أساسه بدأ طيبا، فيه
خلاف بين أهل العلم، وكل له أدلة في ذلك، وأرجح هذه الأقوال ما ذهب إليه الإمام
أحمد رحمه الله وهو كلام فيه جمعٌ بين النصوص، قال: في المسألة تفصيل: إن كان
العمل لا يتجزأ فإنه إذا فسد جزء منه فسد جميعُه، مثال ذلك: الصلاة، لو أن أحدا
جالس يصلي وقبل أن يسلم بدقيقة أو بدقيقتين دخل عليه الرياء؛ هذا مثل من أحدث قبل
السلام لأن هذا العمل لا يتجزأ – تحريمها التكبير وتحليلها التسليم - ومثال أيضا آخر:
الصيام، لو صام المسلم لله وقبيل الغروب دخل عليه الرياء فسدَ عليه صيامُ ذلك
اليوم لأن العمل لا يتجزأ، لكن إذا كان العمل يتجزأ وكان أساسه لله فإن الجزء الذي
طرأت عليه النّيّة الفاسدة هو الذي يفسد، لكن السالم من هذه النّيّة فإنه مقبول إن
شاء الله وصحيح، مثال ذلك: لو أن إنسانا يتصدق مثلا كل يوم ودخل عليه الرياء في
إحدى المرات؛ فما قبلها وما بعدها - أن شاء الله - مقبول وصحيح.
2- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ
إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ».([12])
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث يقرر حقيقة؛ وهي أن الصلاة لا
تصح إلا بطهارة، معنى ذلك أن الوضوء أو الطهارة شرط لصحة الصلاة لأن الله لا يقبل،
والشرط عند الأصوليين هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم
لذاته، فإذا عُدم الشرط عُدم المشروط، عدمت الطهارة والوضوء فالصلاة غير صحيحة،
وبالطبع الأحداث منها ما هو محل اتفاق كالغائط والبول والريح، ومنها ما فيه خلاف
كالنوم – وأيضا المذي من الأحداث التي تنقض الوضوء - لكن عندك القيء والنوم وخروج الدم،
لكن المهم أنه إذا وقع من المسلم حدث ناقض للوضوء فيجب عليه أن يحدث وضوء حتى تصح
صلاته أو تقبل، بالطبع هذا الحديث يشمل جميع العبادات التي يشترط لها الطهارة
.
3- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى
الله عليه وسلّم: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».([13])
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبو هريرة وعائشة رضي الله عنهما من المشهورين من الصحابة رضوان الله
عليهم، لكن بالنسبة لعبد الله بن عمرو بن العاص قد يحسن التعريف بشيء من حياته رضي
الله عنه، فهو ووالده ممن أسلم قبيل الفتح، وهو رضي الله عنه من العجائب في سيرته
أنه ليس بينه وبين والده في العمر إلا إحدى عشرة سنة، وتميز رضي الله عنه بشيء
ذكره أبو هريرة - كما أخرجه الإمام البخاري - قال: ما كان أحد أكثر حديثا عن رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا
أكتب، فتميّز عبدُ الله بن عمرو عن كثير من الصحابة بل هم نوادر الذين يكتبون بأنه
كان يكتب حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، مع أنه ما صحب النَّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم إلا فترة وجيزة لأنه أسلم قبل الفتح، والفتح كان في رمضان سنة ثمان،
يعني صحب النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم سنتين وزيادة ومع ذلك نقل عن النَّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم أحاديث كثيرة أكثر ممن صحبه عشرين سنة لأنه كان يكتب ويحفظ
أحاديثه في كتابه، وحصل لديه إشكال وهو أن قريشا نهت عن الكتابة وقالت: أنت تكتب
عن رسول الله! والأمر كما تعرفون حديث عهد بالإسلام فقالوا: أنت تكتب عن النَّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم وهو بشر يقول في الغضب و الرضى، فقام عبد الله بن عمرو –
أشكل عليه الأمر – فسئل النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال النَّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم: «اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج من هذا إلا حق -ويشير إلى فيه»([14]) فهذه من أقوى الأدلة علة جواز كتابة
حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في عهده، لأنه هناك خلاف في مسألة الكتابة هل
هي جائزة او منهي عنها لورود حديث في صحيح مسلم يقول فيه النَّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم «لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه»([15])، فهؤلاء الثلاثة كلهم رَووا عن
النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قوله «ويل للأعقاب من النار» لماذا قال: ويل
للأعقاب -والأعقاب جمع عقب وهي مؤخرة القدم-؟ لماذا الأعقاب فقط هي التي ويل لها
من النار؟ هل معنى ذلك أن بقية القدم أو بقية أعضاء الوضوء سالمة من الوعيد؟
الجواب: لا، كل أعضاء الوضوء يرد فيها هذا الوعيد، إنما خصّ النَّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم هذا الجزء من العضو لأنه مظنة عدم العناية، عدم الانتباه، وسبب هذا
الحديث أن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدرك أصحابه في وقت كان شتاء وبرودة
شديدة؛ فكان الواحد أو بعضهم مجرد أنه يضرب قدميه بالماء مثل الذي يريد أن يفعل
أقل الواجب، بالطبع يترتب على ذلك أن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لاحظ أن أعقاب
بعضهم لم يصبها الماء فقال: «أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار» ولذا يجب على
كل مسلم، لأن العقب غسله واجب ولا تصح الصلاة إلا بغسله، فغسل القدم كاملة إلا جزء
منها؛ يجعل الوضوء غير صحيح، والحجة في ذلك حديث صاحب اللمعة الذي رآه النَّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم وفي قدمه مثل مقدار الدرهم يلمع لم يصبه الماء، فقال: «ارجع
فتوضأ»([16]) أمره أن يعيد الوضوء، ففي هذا دلالة
على أن الوضوء لا يصح إذا كان هناك جزء من الأعضاء الواجب غسلها لم يصبه الماء،
النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نبّه إلى خطورة الأعقاب، وهذا يؤكد على أننا عند
الوضوء لا بد أن ننتبه إلى هذه الاجزاء التي قد لا يصل إليها الماء أو لا يصيبها
الماء.
4- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي
أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا
اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ
يُدْخِلَهُمَا فِي الإِنَاءِ ثَلاثاً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ
بَاتَتْ يَدُهُ».([17])
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «فَلْيَسْتَنْشِقْ
بِمِنْخَرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ» وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ».([18])
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث اشتمل على عدة مسائل، وقبل أن أدخل إلى المسائل أُبيّن بعضَ
المعاني التي وردت في هذا الحديث، فقوله «فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر» وفي بعض
الروايات «ليستنثر» أي ليخرج الماء، الاستنشاق هو جذب الماء إلى داخل الأنف، والانتثار
هو إخراجه، والاستجمار هو إزالة الخارج من السبيلين سواء كان من القُبُل أو الدُبُر
بالحجارة ونحوها كالخشب والخرق، يعني يزيله بغير الماء، لكن بشرط أن لا يكون نجسا،
لأن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ألقى الروثة وقال: «فإنها ركس» لما جيء بها
ليستجمر، إذا لا بد أن يكون الاستجمار الذي هو يقابل الاستنجاء والاستنجاء هو إزالة
الخارج من السبيلين بالماء، والاستجمار هو الإزالة بغيره كالأحجار والخرق والخشب
ونحوها، قال: «وإذا قام أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا
فإنه لا يدري أين باتت يده» البيات معناه في اللغة النوم في الليل، النوم في
النهار لا يُعتبر مبيتا.
المسائل التي اشتمل عليها هذا الحديث هي وجوب المضمضة والاستنشاق لأن
النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «فليجعل في أنفه ماء» هذا استنشاق ولفظ مسلم «فليستنشق
بمنخريه الماء» وفي بعض الأحاديث «إذا توضأ أحدكم فليمضمض»([19]) وقد اختلف العلماء هل المضمضة
والاستنشاق واجبة الوضوء أو هي سُنَّة؟ القائلون بالاستحباب وأنها ليست بواجبة
يحتجون أنها لم ترد في الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾([20]) قالوا: الواجب هو الغسل، والقائلون
بالوجوب - وأنه لا يصح الوضوء إلا بها - يستندون إلى مثل هذه الأدلة التي فيها
الأمر بالمضمضة والاستنشاق، ويضيفون إلى ذلك من الحُجج أن النَّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم حافظ على المضمضة والاستنشاق، فجميع النصوص التي جاءت وسيَرِدُ بعضُها في وصف
وضوء النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلها ذكرت المضمضة والاستنشاق، فهذه المداومة
تدل على لزومها، والحجة الثالثة قالوا: إن غسل الوجه الوارد في القرآن يتضمن
المضمضة والاستنشاق لأن هذه فتحات موجودة في الوجه تحتاج أيضا أن يصل الماء إليها،
ليست كبقية أجزاء الوجه المغلقة، لا، هذه يجب، فهي جزء من غسل الوجه، وهذا القول
هو الراجح، ولو لم يكن فيه إلّا مثل هذه النصوص التي جاء فيها الأمر بالاستنشاق
والمضمضة، فإذا أضيف إلى ذلك مداومةُ النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليه عرفنا أن
تفسير المراد (اغسلوا وجوهكم) في القرآن فسرها النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
بفعله لأن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نزل عليه القرآن ليُبَيّن للناس، فهو يُبَيّن
للناس بالقول والفعل والتقرير، قالوا: ومن استجمر فليوتر، بالطبع الإيتار في
الاستجمار ليس بواجب ولكنه مستحب، فالوتر هو ضد الشفع وهو من الأرقام: واحد وثلاثة
وخمسة وسبعة وهكذا، فيستجمر مرة واحدة أو ثلاث مرات أو خمس أو سبع، والحكمة في ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله وتر يحب الوتر»([21]).
أيضا مسألة غسل اليدين بعد القيام من النوم، النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
بيَّنَ العلةَ، واخْتُلِف هل الحكم بالغسل هذا للوجوب أو الاستحباب؟ الصحيح أنه
للوجوب، وبيّن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم العلةَ في ذلك فقال: «فإنه لا يدري
أين باتت يده؟» فقد تكون باتت في مكان تلوثت فيه بنجاسة، وفي أقل الأحوال أن تكون
مرَّت على مكان مما تستقذره نفسُه، ولذا ذكر العلماءُ من العلل أن غسل اليدين قبل
إدخالهما فيه محافظة على نظافة وطهارة الماء الذي في الإناء لأنه لو بادر ويده قد تكون
تلوثت بنجاسة أو بما تستقذره النفوس فإنه قد ينجس ما في الإناء والناس في حاجة
إليه يريدون أن يتوضؤوا منه، فهو ينسجه على نفسه هو، فهو يريد أن يستكمل بقية
أعضاء الوضوء، وأيضا قد يستقذر هو أو غيره استخدامَ هذا الماء إذا ظهر أن هذه اليد
تلوثت بشيء يستقذر.
اختلف أهل العلم في مشروعية هذا الغسل لكل نوم، الإمام أحمد رحمه الله يذهب
إلى أن هذا الحكم متعلق بغسلهما بعد نوم الليل، لأنه قال: قوله صلّى الله عليه
وسلّم «فإن لا يدري أين باتت» المبيت لا يكون إلا في نوم الليل، لكن الصحيح أن هذا
شامل وذِكْرُ البَيَات خرج مخرج الغالب، ثم إن العلة في نوم الليل ونوم النهار
واحدة؛ وهي أن الانسان يفقد الشعور، فالذي قد تَمُرُّ يدُه على مكان نجاسة في نوم
الليل أيضا يحصل في نوم النهار، وإن كان نوم الليل الغلب عليه الاستغراق؛ لكن لا
يمنع من وجود هذه العلة، فيقال: ذكر البيات هنا خرج مخرج الغالب.
5- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لا يَبُولَنَّ
أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي؛ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ»
وَلِمُسْلِمٍ: «لا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ»([22]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هنا مسالة تتعلق بالوضوء والاغتسال
وبالماء، يعني بالفعل وبالماء، فالنَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يبولن
أحدكم في الماء الدائم» فَسَّر الدائمَ بقوله «الذي لا يجري» وبهذا يفهم أنه سواء كان
هذا الماء الدائم قُلَّتَين أو أقل أو أكثر؛ فمادام أنه دائم لا يجري فهناك نهي أن
يبول المسلم فيه، قوله «ثم يغتسل منه» الصحيح أن هناك فصل بين هذا الحكم وما قبله،
بمعنى أنه لو كان لا يريد أن يغتسل، مجرد يستقي وينصرف، هل يجوز له أن يبول فيه؟
لا، ولكن هذا النهي نظرا لعلاقته المباشرة بطهارة المسلم؛ قال العلماء: لأنه قد يُباشر
الماء الذي تنجَّس بهذه النجاسة ويشرع هو في الاغتسال منه، هذا ذِكْرُ مسألة
الاغتسال بهذا الماء الدائم الذي تم البول فيه، لأني سآتي أنا إلى مسألة نجاسة
الماء بمخالطة النجاسة له، هذا قضية أخرى، إذا قوله «ثم يغتسل منه» ليست قيدا أو
سببا متصلا بالحكم السابق، فـ «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري» هذا
حكم، هنا جاء حكم جديد «ثم يغتسل» أيضا عطف عليه، فلا تغتسل من هذا الماء الذي أنت
لِتَوِّكَ بلت فيه، لماذا؟ قالوا: لأنه قد يباشر الماء الذي لا يزال متصلا
بالنجاسة متغيرا بالنجاسة؛ فيكون كأنه اغتسل بماء نجس، في رواية مسلم زيادة حكم
جديد؛ فالنهي لا يقتصر على البول وإنما حتى الاغتسال وهو جنب، فطالما أنت جنب
والماء دائم لا يجري فلا يجوز أن تغتسل به، لأن آثار الجنابة ستبقى في الماء،
فماذا أعمل؟ يشرع لك الاستقاء من الماء وأن تغتسل بمكان آخر لا يعود الماء هذا إلى
الماء الدائم، بالطبع يفهم من هذا الحديث أمور:
الأول: أنه إذا نهي عن البول فما هو
أشد منه هو من باب أولى كالبراز والغائط، فلا يقول إنسان: النهي هو البول فأنا
يجوز لي أن أتغوط، لا يجوز، لأنه من باب أولى وهذا يسمى عند الأصوليين القياس الجلي
وهو من باب أولى، الله سبحانه وتعالى يقول – في علاقة الانسان بوالديه: ﴿فَلا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾([23])
هل يجوز الضرب أو القتل أو الإيذاء؟ لا، من باب أولى، حتى لو لم يرد النص
عليها، فمادام نهيت عن الأقل فالأشد من باب أولى، وكذلك الحال في هذا الحديث.
وأيضا يفهم من هذا الحديث أنه لا يجوز
أن تبول خارجا عنه في إناء أو وعاء ثم تأتي وتصبه فيه كما فقه الإمام ابن حزم رحمه
الله، فالإمام ابن حزم يرى أن النهي أن تباشره بالبول لكن تبول في قارورة وتصبه
فيه جائز! تتغوط فيه فهذا جائز! هذا من جموده على ظاهريته رحمه الله، وإلّا فالفقه
والفهم، ولذا نجد مثل شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله الذي أمعن النظر في الأدلة
يقول: هذا يخالف مقتضى الشرع، الشرع له مقتضى له غاية له هدف يخالف هذا الهدف وإن
لم يأت النص عليه، ولهذا يقول: هذا عبث في الدين، إذا فالنهي يشمل ما هو أشد،
والنهي يشمل أن تأتي بالنجاسة وتلقيها فيه.
أيضا يُفهم من هذا الحديث أن الماء
الذي يجري يجوز البول فيه ويجوز الاغتسال فيه من الجنابة كالأنهار والجداول
والعيون الجارية، النهي خاص بالدائم الذي لا يجري، الحكمة في ذلك - من خلال النظر
في الأدلة - هو إفساد الماء على الناس، لأنه لو سمحنا لهذا أن يبول فيه والثاني
والثالث والرابع؛ لفسد هذا الماء، تنجس أو أنه استقذره الناس، وقد يصيبهم
بالأمراض، كذلك الحال لو اغتسل من آثار الجنابة، إذا اغتسل الأول والثاني والثالث
والعاشر والمئة فسد هذا الماء، لكن مادام أنه دائم فالمحافظة عليه تقتضي أن لا
نبول فيه وإن كان البول يسيرا، وأن لا نغتسل فيه من الجنابة ليبقى طاهرا ومقبولا
لا تستقذره النفوس لا في الشرب منه ولا في استخدامه.
سنأتي إلى مسألة وهي هل يتنجس الماء
بملاقاة النجس؟ لأن المسألة فيها نصوص؛ فهناك ما هو أظهر في هذه المسألة من هذا
الحديث كحديث أبي هريرة «الماء طهور لا ينجسه شيء»([24]) ويقابله حديث ابن عمر رضي الله عنه - وهو
حسن - الذي يقول فيه النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «إذا بلغ الماء قُلَّتين لم
يحمل الخبث»([25])، عندنا حديث يقول: الماء كله طهور لا
يتنجس، وعندنا حديث يقول: إذا بلغ الماء – جعل هناك غاية - معناه يفهم من الحديث أن
ما دون القلتين فإنه يحمل الخبث وهو النجاسة، أريد أن أوضح أساسا وهو أنه أجمع
العلماء على أنا الماء ينجس إذا تغيَّر أحدُ أوصافه الثلاثة: الطعم والرائحة
واللون، إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بنجاسة فهو بإجماع أهل العلم، هذا خارج عن
نطاق الخلاف، الخلاف فيما دون التغير، جاء الإنسان بقطعة من الماء بركة جاهل لا
يعرف حديث أبي هريرة «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» أو متهاون مستهتر قال: بدل
أن أذهب وأبحث عن مكان للبول أبول في هذا الماء، فما حكم هذا الماء الذي لاقته هذه
النجاسة؟ هذا خارج نطاق الإجماع، الإجماع لا بد من تغير، هذا لم يتغير الماء، لا
لون ولا طعم ولا رائحة، فما حكمه؟ القائلون بمفهوم حديث ابن عمر رضي الله عنهما
يقولون: نحن نُقَدِّر الماء؛ فإن كان الماء أقل من قلتين فإن الماء أصبح نجسا،
قلنا: حتى لو لم يتغير أوصافه! قالوا: ولو كان قطرة واحدة، والقائلون بحديث أبي
هريرة يقولون: الماء طهور لا ينجسه شيء، قالوا: وعندنا أيضا حديث يؤيد حديث أبي
هريرة وهو ما جاء في الصحيحين من قصة الرجل الذي دخل المسجد - جاهل لا يعرف حرمة
المسجد وحقوق المسجد يظن أن المسجد كأي بقعة من البقاع - حضره بولُه؛ فبحث عن
زاوية لا أحد يراه فرفع ثوبه وبال في المسجد، فرآه الصحابة رضوان الله عليهم
فابتدروه فقال النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: دعوه فليكمل بوله([26])، انظر الخلق العظيم، هذا النَّبيّ
الهادي الرحيم معلم، يعني كثير منا يحتاج لمثل هذه الأخلاق النبوية؛ لا تنفعل يا
أخي حتى لو رأيت منكرا، هذا قد يكون انسان جاهلا، هناك فرق بين الفاسق والمعاند
والجاهل، بعض الناس بمجرد ما يرى منكر ينفعل وربما يترتب على إنكاره مفسدة أعظم، فقال
النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «دعوه»، بالطبع هناك فوائد كثيرة من ترك النَّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم ليس هذا موضع عرضها، أكمل الرجل بوله ثم قام، الحل بسيط، ليس
بحاجة إلى هذا الانفعال، قال النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ائتوا بسجل أو دلو من
ماء، السجل أو الدلو بمقدار أربع ليترات أو خمسة أو ستة ليترات من الماء وأريقوه
على بوله، أصبح مثل بقية أجزاء المسجد، الذين قالوا بمقتضى حديث أبي هريرة قالوا:
هذا فيه دلالة؛ بول هذا الأعرابي الذي خالطه هو مجرد دلو من ماء لا يصل عُشْرَ القُلتين
ومع ذلك اعتبر النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أن هذا الماء طهور وأزال أثر
النجاسة أصبحت البقعة طهور وطاهرة كأن لم يصبها بول، فماذا رد عليهم أصحاب القول
الأول: قالوا: هناك فرق بين أن ترد النجاسة على الماء وبين أن يرد الماء على
النجاسة، وهذه الإجابة أو التوجيه ليس بقوي فيه نظر، لأن المهم أن النجاسة اختلطت
بالماء أيهما الذي أضيف على الثاني فالنتيجة واحدة، فإذا قلنا: إن اختلاط الماء مع
النجاسة إذا كان دون القلتين فإن الماء يتنجس فمعناه أن هذا الماء لو سكبوا عليه
ثلاث دلاء وأربع وخمسة وستة كلما نزل يبقى حكم هذا الماء الذي امتزج بهذه النجاسة
نجس، الماء صار نجسا فكيف يطهر وهو نجس، لأنه خالطته النجاسة، إذا فالصواب أن
الماء طهور إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة ولا يُقاَبل مفهوم حديث ابن عمر
بمنطوق حديث أبي هريرة سيما ومنطوق حديث أبي هريرة الذي يقول فيه صلّى الله عليه
وسلّم «الماء طهور لا ينجسه شيء» بالطبع هناك حجج كثيرة لست بصددها، احتج القائلون
بحديث أبي هريرة بحديث بئر بضاعة وهي بئر كان يُلقى فيها الحيض والقذر حتى إن
ماءها قالوا كنقاعة الحناء وهو دون القلتين ينزل أحيانا الماء إلى ما دون القلتين،
خصوصا أنه متأيد بحديث بول الأعرابي، حديث بول الأعرابي قوي وواضح وهو في الصحيحين،
إذًا فالنهي هنا قول النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأن هذا مما احتج به القائلون
بنجاسة ما دون القلتين لأن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبولن أحدكم في
الماء الدائم»، قلنا: هذا ليس لكم بحجة، لأن هذا الماء الدائم إذا كان أكثر من قلتين
فأنتم لا تقولون بنجاسته والنهي باق، إذًا النهي ليس للتنجيس، التنجيس نتيجة من
النتائج، علة من العلل، سبب من الأسباب، لكن ليس هو السبب الكامل، السبب الرئيس هو
عدم إفساد الماء، حتى لا يُفْسد الماء بحيث يأتي ويبول فيه هذا ويغتسل فيه هذا؛
فيفسد ويستقذره الناس ولا يستطيعون أن يشربوا منه ولا يستخدمونه لا في غسل ولا في
وضوء ولا في غير ذلك، إذا فالنهي ليس للنجاسة، وإنما حتى لا يفسد الماء، ولذا قوله
«لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» ومعروف أن الجنابة ليست نجاسة وإنما
قذارة، يعني جسم الجنب لو مسه الماء فليس بنجس وإنما شيء تستقذره النفوس.
6- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه؛، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إذَا شَرِبَ
الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً»([27]). وَلِمُسْلِمٍ: «أُولاهُنَّ
بِالتُّرَابِ»([28]).
وَلَهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إذَا
وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِناءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعاً وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ
بِالتُّرَابِ».([29])
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذًا هذا حديث عظيم يتعلق بحكم جديد
ولكنه بالآنية، وسيأتي الماء تَبَعًا لكن هنا آنية الوضوء، فما الحكم إذا جاء هذا
الكلب فولغ في هذا الإناء، وقد لا يكون فيه ماء وقد يكون فيه ماء يعني أراد الشرب،
لكن الحكم «فاغسلوا» هذا عام للإناء الذي فيه ماء وللذي ليس فيه ماء، ما الواجب؟
ما المشروع؟ قال: «فليغسله سبعا» في بعض الروايات «أولاهن بالتراب» وفي بعضها «أخراهن
بالتراب»([30]) وفي رواية عبد الله بن مغفل «وعفِّروه
الثامنة بالتراب» يعني السبع غسل، الروايتان الأوليتان يكون التراب إحدى الغسلات
السبع أما في حديث عبد الله بن مغفل التراب زائد على السبع قال: «عفروه الثامنة
بالتراب»، بالطبع لن أتكلم عن ما يتعلق باقتناء الكلب، لأن الكلب لا يجوز اقتناؤه
إلا لأحد أسباب ثلاثة: الحرث والصيد والحراسة، وما سوى ذلك كحال بعض المسلمين الذين
قلدوا هؤلاء الكفار دون أن يفقهوا سبب اقتنائهم لهذه الكلاب، فإن النَّبيّ صلّى
الله عليه وسلّم نبه أمثال هؤلاء إلى أنه ينقص من أجر كل مسلم يقتني كلبا لغير هذه
الأسباب السابقة أنه ينقص من أجره كل يوم أجر بمقدار قيراط([31])، فإن كان الكلب قد اقتني لأحد هذه
الأسباب الثلاثة ككلب زرع أو كلب حراسة أو كلب صيد، فجاء الكلب وولغ في هذا الإناء
وقد يكون في الإناء ماء، الآن حكم هذا الإناء أن لا يستخدم حتى يغسل سبعا إحداهن
بالتراب، فإن كانت الثامنة فهذا أكمل، طيب هل حكم هذا الذي هو غسل السبع لأجل نجاسة
ما ولغ فيه الكلب، بمعنى آخر لعاب الكلب نجس إلى هذا الحد؟ بإجماع العلماء أن
الغسلة الثالثة التي تزول معها النجاسة كافية - بالإجماع - بمعنى أنك إذا زالت
النجاسة وأزلتها ثلاث مرات يكفي ولا تحتاج أكثر من ثلاث مرات، إذًا فالكلب زائد عن
الثلاث فمعناه هناك علة ليست هي النجاسة، ومما يؤيد هذا الفهم أن كلب الصيد يجوز
أكلُ ما صاده ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ
تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾([32]) والنَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول
للصحابي «إذا أرسلت كلبك المعلم»([33])، طيب هو عندما يصيد يصيد بفمه، معناه
أنه يصيب شيءٌ من لعابه هذا الصيد ولم يقل النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اغسلوا
هذا الصيد، إذا العلة هي ليست النجاسة؛ لأن النجاسة تزول بثلاث غسلات بالإجماع،
إذا العلة هي داء يفرزه لسان هذا الكلب؛ واكتشفه الطب الحديث، فإذا هو ولغ يخرج
لسانه هو وفيه داء، ولذا بالإجماع لا يشترط إزالة النجاسة بالتراب، والنَّبيّ صلّى
الله عليه وسلّم أَلْزَمَ بها هنا، بالإجماع لا يلزم غسل النجاسة بالتراب، يعني
أصاب ثوبك نجاسة لا يلزم التراب لغسله، اشتراط التراب هنا يدل على أن هناك معنى
آخر غير النجاسة وفعلا الطب الحديث اكتشف أنه يفرز مادة ضارة لا تزول - بإذن الله
- إلا مع التراب، فكأنَّ الغَسَلات السبع للتهيئة والتنظيف وإزالة ما تستقذره
النفوس ثم يأتي التراب ليقطع أثر هذا الداء.
7- عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي اللهُ عنهما: "أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا
بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ
مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ
وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً، وَيَدَيْهِ إلَى
الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا
رِجْلَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم
يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي
هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ - لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ - غُفِرَ لَهُ
مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»".([34])
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث يتضمن صفة وفضلا، الصفة هي
صفة وضوء النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أكمل حديث جاء في صفة وضوء النَّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم حديث عثمان رضي الله عنه، وفيه التثليث؛ يعني تكرار الغسلات
ثلاث مرات، إذ هي أكمل الوضوء، لأن من زاد عن الثلاث فقد أساء وتعدى وظلم([35]) بنص النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
يعني لا يجوز الزيادة على الثلاث، الواجب مرة واحدة وأكمل منها اثنتان، والثلاث
هذه أكمل صفات الوضوء؛ ما عدا عضو واحد وهو مسح الرأس فلا خلاف - والخلاف الذي جاء
خلاف شاذ - أنه يسمح ثلاثا، لا خلاف بين أهل العلم أن مسح الرأس مرة واحدة سواء
مسحه باتجاه واحد أو باتجاه ثم عاد، لأنه ورد في صفة مسح النَّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم أنه أقبل بهما وأدبر، لكنها تعتبر مسحة واحدة لأنه لا يرفع يديه لكن فيه
عملية تبليغ، لكن يمسح مرة ومرتين وثلاث! لا، هذا خلاف السُّنَّة، فعثمان رضي الله
عنه أراد أن يُعَلِّمَ الناس عمليا صفة وضوء النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهذا
أكمل من مجرد القول لأنه يجتمع فيه القول مع الفعل فيكون التصور شاملا، فعثمان رضي
الله عنه دعا بوَضوء والوَضوء بفتح الواو هو الماء أما بضمها فهو الفعل، إذا ننتبه
الفرق بين الوَضوء وبين الوُضوء، فالوضوء الذي دعا به عثمان رضي الله عنه هو مقدار
من الماء يكفي للطهارة، فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات، هذا الفعل قال
العلماء مستحب، وإنما يجب عند القيام من النوم، أما من دون القيام من النوم فهو
مستحب غسل اليدين، إذًا فأفرغ من الإناء لأنه يريد أن يدخل يده في الإناء فقَبل أن
يدخل يده في الإناء غسلها ثلاثا، ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق
واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا، طبعا ورد تثليث الاستنشاق والاستنثار في أحاديث أخرى
أنه ثلاثا، لكن اختُلِف في صفة الاستنشاق والاستنثار، فجاءت الروايات تفيد ثلاثة
معاني، وبعضها صريح هذه الروايات، فالرواية التي أوردت مثل هذه الأفهام الثلاثة
قالوا: إنه تمضمض واستنشق من كف واحدة ثلاث مرات، تمضمض واستنشق من كف واحدة ثلاث
مرات، ففهم بعض أهل العلم أن هذا المقدار من الماء الذي حمله في كفه وتمضمض
واستنشق وتمضمض واستنشق وتمضمض واستنشق كله من غرفة واحدة، وهناك من قال: لا، غرفة
واحدة يتمضمض منها ويستنشق ثم الغرفة الثانية للمضمضة والاستنشاق ثم المرة الثالثة،
وهناك من قال: لا، الصحيح أنه تتمضمض ثلاثة مرات بثلاثة كفوف وتستنشق أيضا ثلاث
مرات، يعني تأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للاستنشاق، بالطبع أقرب هذه
الصفات هي أنه يتمضمض ويستنشق من غرفة واحدة يجمع بها بين المضمضة والاستنشاق لأن
هذه أقرب لدلالة النصوص، ثم غسل وجهه ثلاثا، الواجب غسله من الوجه هو من منابت شعر
الرأس الطبيعي لأن بعض الناس قد ينزل عنده الشعر إلى بعض من الجبهة وبعض الناس
يكون عنده صلع، فمن منابت الشعر الطبيعي إلى أسف الذقن وهو الذي تنبت عليه اللحية،
وما بين الأذنين عرضا، بالنسبة إلى اللحية قال بعض أهل العلم بوجوب غسلها والصحيح
أنه لا يجب وإنما يُسن تخليلها، والإمام أحمد رحمه الله قال: لا يثبت في تخليل
اللحية حديث، كأنه يرى أنه لم يثبت عنده سنية واستحباب سنية تخليل اللحية بالماء،
ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين، والمرفق هو المفصل بين العضد والذراع هذا
هو المرفق، الصحيح أن المرفق داخل في الغسل، لأن إلى أو حتى تفيد الغاية، ثم هو
أكمل وأحوط، وسآتي أنا إلى الزيادة على هذه الأعضاء الواجبة بعد أن أنتهي من
الكلام على غسل القدمين، ثم مسح برأسه، وبيّنت لكم أن الأصل تعميم الرأس، فيمسح
رأسه وأذنيه - ظاهر الأذنين - الأفضل أن يُقْبِلَ بهما ويدبر، يعني يبدأ من مقدمة
رأسه إلى قفاه ثم يعود إلى المكان الذي بدأ به – هذه أكمل الصفات -، ولو عَمَّمَ
رأسه بأي طريقة بدأ من الجنبين أو من الخلف كله جائز، لو أنه اكتفى بمسحه باتجاه
واحد أيضا كافي، هل يجوز مسح جزء من الرأس - مثل ما يفعل بعض أصحاب المذاهب -
وبعضهم قال: يكفي ثلاث شعرات؟ الصحيح أنه لا، وإنما يجب تعميم الرأس، لا يلزم
إصابة كل شعرة لأن هذا قد يكون متعذرا، لكن بنفس الوقت لا يكفي مسح جزء من الرأس،
يحتجون هم بحديث مسح النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمّا مسح وعلى رأسه العمامة
قالوا: إنه مسح الناصية وأمر بيده على العمامة، لكن هذا في حال أن العمامة موجودة
والعمامة جعلها العلماء كالخفين لأنه يشق نزعها وحينئذ فيصح المسح عليها، أما إذا
كان لا يشق نزعها مثل الطاقية أو الغطاء الذي نضعه نحن على رؤوسنا؛ هذا ينزع، لكن
العمامة التي تحتاج إلى حل وفيها مشقة فهذه يجوز المسح عليها، ثم غسل كلتا رجليه،
طبعا في اليدين وفي الرجلين يبدأ باليمنى ثم اليسرى، غسل كلتا رجليه إلى الكعبين ثلاثا،
والكعب المفصل بين القدم والساق، هو هذا العظم الناتئ البارز، ثم قال: رأيت رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ نحو وضوئي هذا، لاحظ هذه الدقة وهذا التفصيل؛ ومع
ذلك يتورع رضي الله عنه أن يقول مثل وضوئي هذا، قال: نحو، يخشى أنه حصل عنده تغيير
ولو يسير؛ فيكون نسب إلى النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئا لم يره من فعل
النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو أنه نقص، قال: نحو وضوئي، يعني قريبا منه، مع أن
النصوص التي جاءت عن الصحابة في صفة وضوء النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دلت على
أن عثمان ذكر الصفة الكاملة للوضوء، ثم قال: «من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى كعتين -
لا يحدث فيها نفسه - غفر له ما تقدم من ذنبه» وهذا فضل عظيم، أن تتوضأ وضوء كامل
ثم تقوم إلى ركعتين لكن بشرط أن تُقْبِل على الله إقبالا كاملا، لا يكون لنفسك حظا
وتفكيرا وحديثا مع نفسك، لا، تُقْبِل على الله، الجزاء والنتيجة والثمرة أن الله
يغفر لك، عمل يسير، وهذه تسمى سُنَّة الوضوء التي قال عنها لبلال رضي الله عنه
النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إني سمعت خشخشة نعليك في الجنة»([36]) يعني شهادة له بالجنة، سمعت صوت نعليك
في الجنة؛ فما أرجى عمل عندك؟ والجواب: أنه في تقديري أنني لم أتوضأ إلا وصليت
ركعتين، فبإمكانك في أوقات غير النهي أن تتوضأ مثل هذا الوضوء الكامل وتقوم وتجهز
نفسك على أن تقبل على الله سبحانه وتعالى إقبالا كاملا لتحظى بهذه المغفرة، لكن
هذه المغفرة يا إخوان هي لصغائر الذنوب وليست للكبائر، لأن الكبائر تحتاج إلى توبة
صالحة.
أعود إلى مسألة العدد فأقول: إن الواجب
أن يغسل المسلم غسلة واحدة، وأفضل منها اثنتين، وأكمل ذلك ثلاث، وأن يغسل المقدار
الذي ورد في هذا الحديث، أما الزيادة سواء كانت في العدد أو في المقدار فإنه لا
يجوز، وهذا مخالفة للنَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي جعله الله مُعلما لهذا
الدين، قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»([37]) يعني: اتبع في دينك مثل ما جاء عن
النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، «من رغب عن سنتي فليس مني»([38]) لا يعني الزيادة أنك تحصل على أجر
أفضل؛ لا، بل إن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قصة الثلاثة الذين سألوا عن
عبادته أخرهم أنه لا ينفعهم هذا الاجتهاد الذي يزيد على السُّنَّة، لذا قال في
الوضوء: «فمن زاد على هذا فقد تعدى وأساء وظلم» كما سيأتينا في حديث أبي هريرة في
هذا وسأبين وأعلق عليه، لكن هنا لا يجوز أن تزيد في مقدار المغسول من الوجه ولا
اليدين ولا الرجلين ولا مسح الرأس والرقبة، الدين ليس بالرأي ولا بالاستحسان وإنما
باتباع النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في القليل والكثير، عندما يقول صلّى الله
عليه وسلّم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» هذا فيه بيان أن العبادات توقيفية، وقال لهم
في الحج: «خذوا عني مناسككم»([39])، لا تجتهد، لذا فبعض الناس يبتلى بشيطان الوضوء ورأيت
أنا بعضهم، بل من عجيب ما حصل؛ كنت مرة أتوضأ وبجواري رجل عليه سمة الصلاح وأنا
أراه كثيرا داخل الكلية وكنا نتوضأ استعدادا لصلاة الظهر وما شاء الله عليه سمت
الصلاح والسُّنَّة، فتوضأتُ وبعدما انتهيت التفت إليَّ وقال لي: أنت مطمئن لهذا
الوضوء الذي أنت توضأته؟ قلت: نعم والحمد لله، قال: فاحمد الله؛ فإني أعاني من
الوضوء، مسكين مع أنه رجل صالح وظاهره الخير لكنه ابتلي بهذا الشيطان، وترك له
المجال، ولذا ننتبه الشيطان أحيانا يأتيك من جهة النقص يريدك أن تنقص من دينك وتقع
في الشهوات والذنوب لكن قد يجد فيك صلابة وقوة فما يستطيع، يقول: طالما لديه هذه القوة
والصلابة؛ نريد أن نوظف هذه القوة ونفسد عليه دينه، كيف؟ بالزيادة، يتعدى هدي
النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيفسد، فنحن ننتبه، ولذا قال النَّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم للبراء بن عازب في دعاء النوم عندما علمه الورد؛ فقال اجتهادا منه -
البراء رضي الله عنه – في آخر الحديث: «وبنبيك الذي أرسلت» ويعرف أن مقام الرسالة
أعلى من مقام النُّبوة وأشرف وأكرم، فقال عليه الصلاة والسلام: «اعرض عليّ» يعني
أعد عليَّ ما علمتك، فأعاد عليه مثل ما تعلم منه ولكن عندما جاء إلى هذه الكلمة
رأى أن من إكرامه للنَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقول (وبرسولك الذي أرسلت) بدل
«ونبيك الذي أرسلت» فقال النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قل «ونبيك الذي أرسلت»([40]) كما علَّمتك، لا تُزِد ولا تُعدل،
دائما نحرص على أن نتبع السُّنَّة، لأنه هنا نقترب من النَّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم لكن إذا زدنا أو نقصنا نبتعد بقدر الزيادة والنقص فقط.
8- عَنْ عَمْرِو بْنِ
يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي
حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه
وسلّم؟ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ
صلّى الله عليه وسلّم فَأَكْفَأَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرِ، فَغَسَلَ
يَدَيْهِ ثَلاثاً، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ
وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثاً بِثَلاثِ غَرْفَاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ في التور
فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَغَسَلَهُمَا
مَرَّتَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَمَسَحَ
رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ
رِجْلَيْهِ".([41])
وَفِي رِوَايَةٍ:
"بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ
رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ". وَفِي
رِوَايَةٍ: "أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَأَخْرَجْنَا
لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ"([42]). التور: شبيه الطست.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث شبيه إلى حد كبير بحديث
عثمان رضي الله عنه ففيه الوصف الكامل لوضوء النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفيه الجمع
بين الوصف العملي والنظري، فعثمان علَّم الناس بفعله وعبد الله بن زيد علم الناس أيضا
بفعله، يضيف إلى ذلك أن هذا الوصف الذي ذكره لهم هو أيضًا رأى النَّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم لمّا جاءهم توضأ مثل هذا الوضوء.
حديث: «يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ» و «إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ
القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ»
9- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله
عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يُعْجِبُهُ
التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ
كُلِّهِ".([43])
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث فيه قاعدة عامة أو أساس وهو
أن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يعجبه التيمن - أن يبدأ باليمين - في تنعله
وترجله يعني في لبسه النعال والترجل هو تمشيط الشعر وفي طهوره - سواء كان الوضوء
أو الغسل – ولذا تلاحظون أنه يبدأ باليد اليمنى قبل اليسرى وبالرجل اليمين قبل
اليسرى وفي الغسل كان يبدأ بشقه الأيمن قبل الأيسر، فكان النَّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم يعجبه التيمن وفي شأنه كله، يعني كأنها تقول في كل أموره، ومع ذلك قال
العلماء رحمهم الله: أن النصوص تدل على استحباب التيمن في الأمور الطيبة، أما
الأمور التي يكون غيرها أفضل منها أو أنها من الأمور التي ليست بطيبة مثل الدخول
إلى الخلاء قالوا: يبدأ باليسار لا يبدأ باليمين إكراما لليمين، وكذا الخروج من
المسجد يبدأ باليسار حتى تبقى اليمنى أكبر وقت في هذا المكان الفاضل، كذلك ما
يتعلق بالاستطابة فإذا كان فيها إزالة أذى فيبدأ باليسار قبل اليمين، يعني لا يتيامن
في هذه الأمور التي فيها استقذار، ولذا الانسان لا يستنجي بيمينه؛ يستنجي بيساره، أما
الأمور الفاضلة فيبدأ باليمين.
10- عَنْ نُعَيْمٍ
الْمُجْمِّرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه
وسلّم أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً
مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ». فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ
غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ.([44])
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ:
"رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ
حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ
إلَى السَّاقَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم
يَقُولُ: «إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرَّاً مُحَجَّلِينَ
مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ» فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ
وَتَحْجِيلَهُ فَلْيَفْعَلْ.([45])
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ:
سَمِعْتُ خَلِيلِي صلّى الله عليه وسلّم يَقُول ُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنْ
الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ».([46])
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سمي نُعيم المجمر لأنه كان يجمر المسجد
أي يطيب المسجد رحمه الله.
هذا الحديث يشكل على ما كنا انتهينا
إليه قبل قليل في حديث عثمان وهو أن المسلم يلتزم بالقدر والعدد الوارد في
الأحاديث فلا يزيد، هنا حديث أبو هريرة رضي الله عنه فيه زيادة القدر وليس العدد،
قبل أن آتي إلى هذا الموضوع هناك قول النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «إن أمتي يُدعون
يوم القيامة غُرًّا مُحجلين» وهذه علامة لهذه الأمّة يعرفهم بها صلّى الله عليه
وسلّم، فهو يعرف أمته من بين الأمم بهذه الصفة، الغرة تكون في الوجه، وأما التحجيل
فيكون في القدمين، أبو هريرة رضي الله عنه روى عن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
قوله «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» فَهِمَ من هذا أنه يجوز بل يستجب
الزيادة على قدر المغسول أو في مقدار المغسول من العضو، بالطبع قوله رضي الله عنه
(سمعت رسول الله) ليستدل على فعله فيه دليل على أن المسألة فَهْمٌ لا أنه رأى
النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يفعل ذلك وإلا كان قال: رأيت النَّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم يغسل يديه حتى يشرع في العضدين ورأيت الرسول يغسل قدميه حتى شرع في
الساقين ولكنه لم يقل، قال: أنا سمعت الرسول يقول: «إن أمتي يُدعون يوم القيامة
غُرًّا محجلين من أثر الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل»، طيب لو جئنا
نناقش فَهْمَ أبي هريرة رضي الله عنه؛ النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من
استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» الغرة الآن قلنا هي في الوجه والزيادة جاءت عند
أبي هريرة أين؟ في العضدين والساقين، مع أن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: من
استطاع منكم أن يطيل غرته، لم يقل: عضديه! نعم رواية «تبلغ الحلية من المؤمن حيث
يبلغ الوضوء» قد تكون نصا عاما يمكن أن يستند إليه حينئذ لكن حينئذ لا يخص القدمين
والرجلين؛ تشمل كل أعضاء الوضوء، ولذا فهناك إشكال من هذا الفعل من أبي هريرة رضي
الله عنه، والأحوط أن يلتزم المسلم ما ورد في صفة وضوء النَّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم في رواية الصحابة رضوان الله عليهم كعثمان وعبد الله بن زيد وغيرهم رضي الله
عنهم، وهذا اجتهاد من أبي هريرة رضي الله عنه في فهمه للنص أو يقال: إن المحذور
الشرعي أن تكون الزيادة على سبيل اعتقاد الوجوب، أو أنه لا يصح الوضوء إلا بهذه
الزيادة كحال الموسوسين؛ الذي يشرع في العضد لأنه لا يرى كفاية غسل المرفق، هذا
الموسوس لو أنك ألزمته بأن يقف عند المرفق لا يرى أن هذه الطهارة صحيحة، فهذا
التجاوز يعتبر دخولا في النهي والمخالفة، أما أبو هريرة رضي الله عنه فكان فهمه أن
هذه الزيادة ليست لأجل الاحتياط أو لأن ذلك واجب، وإنما بحث عن الأفضل – زيادة في
الفضل - بدليل قوله «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» يعني يبحث عن إطالة
الغرة؛ إطالة مكان الوضوء؛ إطالة الحلية التي تكون بمقدار ما أصابه ماء الوضوء من
الأعضاء، لا أنه يرى أن الوضوء لا يصح إلا بهذه الزيادة، ولا يرى أن هذا الفعل
احتياط، وحاشاه من ذلك رضي الله عنه فهو أقرب الناس وأعلمهم بالسُّنَّة، لكن مع
هذا الفهم الأولى التزام ما جاء عن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإذا خالف فهم
الصحابي ما جاءت به الأحاديث فهو له فهمه رضي الله عنه لكن نحن لنا ما دلت عليه
النصوص، إذا فلا يجوز الزيادة في العضو المغسول على ما جاء به النَّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم لا على سبيل الاحتياط ولا على سبيل اعتقاد أن الوضوء لا يصح إلا بهذه
الصفة لأن هذا زيادة في الدين.
أسئلة
- سؤال: إذا ولغ الكلب فيما يجعله أهل
البادية ليسقوا فيه أنعامهم؛ فهل ينجس؟
جواب: لا، قلنا إن الماء لا ينجس، وأن
الغسل من الولوغ لا يدل على النجاسة، فيبقى هذا الماء طاهرا، لكن النَّبيّ صلّى
الله عليه وسلّم نبَّه إلى أن ما ولغ فيه الكلب أصبح فيه خطورة على صحة وسلامة
الإنسان ولذا ممكن أن تشرب منه الدواب والبهائم لكن الإنسان يجتنبه حتى يغسل كما
أوصى بذلك النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم.
- سؤال: ما الدليل على مسح
الأذنين؟
جواب: الدليل ورد في بعض الآثار، وأيضا
يحتج لهم بعموم حديث مسح الرأس فيقولون أن ظاهر الأذنين يعتبر داخل وضمن الرأس.
- سؤال: إذا ولغ الكلب في اللباس فما حكمه؟
جواب: الأصل كونه ولغ سواء كان في لباس
أو إناء فالحكم واحد معنى ذلك أنه يحتاج هذا الشيْ الذي ولغ فيه يحتاج إلى الصفة الواردة
في الحديث.
- سؤال: لا يجوز الاغتسال في الماء الدائم والانسان جنب، ولكن هل
يجوز الأخذ من الماء الدائم والاغتسال منه للجنب؟
جواب: نعم يجوز للوضوء والغسل وهذا هو
المشروع في حقه، وإنما النهي أن يبول أو يغتسل فيه وهو جنب.
- سؤال: من النواقض للوضوء الدم
فهل الدم يشمل دم الآدمي والحيوانات؟
جواب: أشرت في أثناء الكلام أن المسألة
خلافية في الدم، وهناك من يرى أن الدم ليس بنجس ولا ينقض الوضوء، ومن الأدلة على
ذلك أن عمر رضي الله عنه لما طُعِن صلّى وجرحه يثعب دما([47])، وبعضهم يرى أن الدم ناقض للوضوء؛ وأن
ما أصاب البدن أو اللباس فهو نجس إلا المقدار اليسير فإنه يعفى عنه، أما بالنسبة
لدم الحيوان فالنجس منه الدم المسفوح الذي يخرج من الأوداج عند الذبح، أما ما سوى
ذلك كالموجود في الأوردة أو مختلط باللحم فهو ليس بنجس بالنسبة لمأكول الحكم، لكن
الراجح فيما يتعلق بدم الإنسان أنه ليس بنجس ولا ناقض للوضوء.
سؤال: هل الزيادة للأعضاء لا تجوز كذلك
في الاستنجاء من الغائط أو ما شابهه لا يجوز؟
جواب: بالنسبة للاستنجاء أو الاستجمار
فإنه يستنجي ويستجمر حتى يتيقن أن النجاسة زالت، أما بالنسبة لغسل الأعضاء فلا
يجوز الزيادة إلا إذا غلب على ظنه أن إحدى الغسلات الثلاث لم يكتمل فيها غسل
العضو، لنفترض أنه غسل الأولى والثانية والثالثة ثم غلب على ظنه أن الأولى لم تكن
كاملة فيجوز حينئذ استبدالها بغسلة جديدة، لكن أن يغسل غسلة رابعة بعد ثلاث غسلات
كاملة؛ فهذا لا يجوز.
- سؤال: هل من السُّنَّة
التثليث في غسل الجنابة؟
جواب: التثليث في غسل الجنابة لا أعرفه،
سوى أن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم توضأ وضوءه للصلاة ثم أفاض الماء على رأسه
ثلاثا، ثم غسل شقه الأيمن ثم غسل شقه الأيسر، ثم تنحَّى وغسل قدميه، شيخ الاسلام
رحمه الله يرى أن التنحي لا يكون مقصودا إلا إذا كان المكان الذي يغتسل فيه
الانسان يمكن لمياه غسل الجنابة أن تبقى فيه، خصوصا إذا كانت أرضية مكان الاغتسال من الطين أما إذا كانت
مفروشة بالحجارة أو المواد الحديثة كالبلاط أو الاسمنت فلا يرى أن التنحي له هدف
أو حكمة، ولو تنحى وغسل رجليه يكون أكمل إن شاء الله.
- سؤال: ما حكم مسح الرقبة؟
جواب: هذا وإن كان قال به بعض أهل
العلم؛ فالصحيح أنه ليس بمشروع.
- سؤال: لو أن شخصا على جنابة
ونزل إلى مسبح – ماء راكد – فهل هذا يرفع الجنابة عنه؟
جواب: بلا شك، إذا نوى رفع الحدث
الأكبر، لنفترض أن هناك مسبحا والناس يسبحون فيه وهو عليه جنابة، فدخل يسبح في هذه
المسبح بنية رفع الحدث؛ صحَّ، ولا يلزم الصفة لأن تلك صفة كمال والواجب عليه أن
يعمم بدنه بالماء سواء بدأ برجليه قبل يديه ورأسه أو بدأ برأسه، فالمهم أن يعمم
بدنه بالماء.
- سؤال: هل يجب غسل ظاهر اللحية
وإن كانت طويلة؟
جواب: قلت ليس بواجب، والواجب غسل ما
نبت على الوجه، أما ما زاد عن الوجه فهذا ليس بواجب، بل قال الإمام أحمد رحمه الله:
لا يثبت في تخليل اللحية حديث - وإن كان ورد فيها أحاديث حسنة - لكن على كل حال هي
محل خلاف وأكثر ما يقال فيها إنها مستحبة وليست بواجبة.
- سؤال: ما الصفة الراجحة في
المضمضة والاستنشاق، وهل يصح تقديم الاستنشاق؟
جواب: الأصل كما ذكرت لكم قبل قليل أن
هناك اختلاف بين أهل العلم في فهم التثليث في الاستنشاق والاستنثار، لكن فيما دلت
عليه النصوص يظهر أن أكمل الصفات أن يتمضمض ثم يستنشق من غَرفة واحدة يصنع ذلك
ثلاث مرات، سواء صنع هذا مرة أو مرتين أو ثلاث مرات فإنه يغرف غرفة واحدة يبدأ
بالمضمضة والاستنشاق.
- سؤال: قوله صلّى الله عليه
وسلّم «لا يحدث فيهما نفسه» ما المراد بحديث النفس هنا؟
جواب: المقصود الخواطر والأفكار كأنه
يحدث أو يتحادث مع نفسه فينشغل عن صلاته والإقبال على الله سبحانه وتعالى بمثل هذه
الأشياء التي يفكر فيها.
- سؤال: هل يصح إفراد غسل الأذن
بماء جديد؟
جواب: لا، الأذن لا تغسل أصلا، وإنما
تمسح، لكن غسلها بماء جديد هذا موطن الخلاف، خرج العلماء ما ورد من أخذه ماء جديدا
لأذنيه قالوا: لعله جف الماء ما في يديه من الماء الذي كان مسح به رأسه فاحتاج أن
يأخذ ماء جديدا لمسح أذنيه، وإلا فالأصل أن يمسحهما بالماء الذي مسح به رأسه.
- سؤال: إذا كانت النّيّة في
طلب العلم الأجر والثواب أولا ثم الراتب الذي يقتضيه من تدريسه في جامعة أو مدرسة،
فهل يثاب أو يؤجر؟
جواب: الحقيقة أن المسألة ومسائل أخرى لها
تعلق بحديث عمر رضي الله عنه وهو حديث عظيم لكن عامل الوقت والحرص على المرور على
أكبر قدر من الأحاديث لعله يتيسر المرور استكمال العبادات كاملة في هذه الدورة هو
الذي جعلني اقتصر على ما ذكرته لكم وأُعْرِضُ أو أصرف النظر عن بعض المسائل الملحة
ومنها مسألة طلب العلم الشرعي لأجل الوظيفة، أو حكم أخذ الأجر على تعليم العلوم
الشرعية، وهل يؤثر هذا على النّيّة، بالطبع من طلب العلم أو دَرَسَ العلوم الشرعية
في المدارس أو الجامعات بغرض الحصول على المال أو الوظيفة أو الجاه فهو آثم ويكون
ممن طلب العلم لغير الله سبحانه وتعالى.
طيب إنسان طلب العلم وحصل على الشهادة،
ما حكم الوظيفة؟ وما حكم المال الذي يتقاضاه خصوصا من يدرس العلوم الشرعية؟
الجواب: أن هذا جائز لأن هذا المال الذي أخذه ليس قيمة للعلم الذي يبذله، العلم
هذا لا يمكن أجره وثوابه إلا من الله سبحانه وتعالى، لو أعطوا الناس مبالغ طائلة،
النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «خير من الدنيا وما عليها»([48]) إذًا هذا المال الذي يأخذه كمرتب على
وظيفته، هذا المدرس أو المفتي أو الداعية لا يأخذه مقابل العلم الذي يبذله، وإنما
يأخذه مقابل التفرغ وليس عوض العلم، لأن العلم هذا لا يمكن لمخلوق أن يعطي عوضا
عنه وإنما العوض من الله تعالى، فهؤلاء المشايخ وهؤلاء الأساتذة والدعاة إنما يأخذون
المال مقابل تفرغهم وليس معنى ذلك أن الذي يدرس المسائل المهمة لا بد أن يأخذ
عليها مالا كثيرا أما لو كانت مسائلا من الفضائل والمستحبات والفروع فننقص أجره،
لا الأجر واحد، ليس الأجر مقابل العلم وإنما مقابل التفرغ، وقد كان عبد الله بن
المبارك رحمه الله يطلب من السُّفيانين ومن إسماعيل بن علية؛ يطلب منهم أن يجلسوا
للناس ليعلموهم الحديث ويقول لهم: أنا أكفيكم مؤنة أهليكم وأرزاقهم، أنا أعطيكم
مالا يغنيكم عن التكسب والتجارة، لأنه لما طلب منهم أن يتفرغوا قالوا: أنت تعرف
لنا أهل وأولاد نحتاج أن نتكسب حتى نطعمهم، قال: أنا أعطيكم، اجلسوا وأنا أعطيكم مالا
يغنيكم، إذا هو أعطاهم مقابل التفرغ لا مقابل أنه أنت اليوم جلست وعلمت الناس خمسين
حديث والثاني أعطى مئة حديث سنعطيه زيادة؛ لا ، الأجر واحد، مقابل التفرغ أنت
تتفرغ ساعتين ثلاث ساعات أربع ساعات خمس ساعات نعطيك أجرا على هذا التفرغ لا على
عدد الأحاديث وأهمية الأحاديث التي علمتها الناس.
طيب نكتفي بهذا القدر ونسأل الله
سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه وأن يرزقنا جميعا العلم النافع
والعمل الصالح إنه سميع مجيب، وصلّى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق